لا يُستطاع تحسين الذات بغير التعاطف معها

الكاتب: نيك ويغنال Nick Wignall
ترجمة: أمجَاد السعيد amjrg@
تدقيق ومراجعة: أحمد موسى
لطالما انزعجت من مصطلحات حب الذات، والتعاطف مع الذات، فقد بدت لي مزيجًا ضحلًا من هراء العصر الجديد والترف العقيم، إلى أن وقع أمر طريف قلب رأيي تمامًا، وهو بداية كتاباتي في تحسين الذات.
الفجوة الهائلة في قلب تحسين الذات
بدأت مدونتي عام ٢٠١٧ بهدف نقل أفضل الأفكار والأساليب التي استخدمها في عملي أخصائيًا نفسيًا، لإثبات كفاءتها خارج المكتب لمن يسعى إلى النمو والتطور الشخصي. وحين بدأت الكتابة عن كيفية توظيفنا علمَ النفس لنُحسِّن صحتنا العقلية، ونحقق أهدافنا، سرعان ما وجدت نفسي منغمسًا في عالم تحسين الذات.
كان الأمر مثيرًا في البداية، مقالات تحفيزية كثيرة مثل: الاستيقاظ مبكرًا للعمل على شغفك، وكيف تزيح عنك مخاوفك الداخلية (insecurities) لِتواجه العالم، وتقنيات باهرة لبناء عادات جديدة والتخلص من العادات السيئة، تعلمون ما أعني.
ولكن سرعان ما بدأت أشعر أن ثمة خطبًا في بلاد العجائب المسماة تحسين الذات، وبدأت ثقافة «غير حياتك في خمس خطوات بسيطة» تظهر… رخيصة؟ فكلما أطلت قراءتي فيها شعرت وكأنني أتجول في متجر لبيع السيارات المستعملة أو ندوة عن التسويق الشبكي.
السطح لامع وبراق، ولكن بَدا اللب أجوفَ، إن لم يكن متعفنًا:
- الكثير من التبسيط المخل في صورة «كما قَدِرتُ تقدر».
- الكثير من الاقتباسات التحفيزية من مشاهير ملهِمين، يصحبها القليل من الوسائل التطبيقية اللازمة.
- تجاهل شبه تام لِلعقبات والحواجز التي تعوق الناس عن التحسينات الحقيقية.
- غياب واضح لإدراك العوامل الظرفية والبيئية التي تؤثر على التحسين، والسواء، والنجاح.
- والأكثر مكرًا هو الإيعاز بأن ما أنت عليه لا يكفي.
المفارقة في العديد من مقالات تحسين الذات حسنة النية -بما في ذلك بعض مقالاتي- أنها تعطل المكون الجوهري اللازم لتحسين الذات الحقيقي والمستمر، وهو التعاطف مع الذات.
ما علاقة التعاطف بالتحسين؟
في عملي معالجًا نفسيا، أرى أفضل ما عند الناس من نوايا وخطط للتحسين تقع ضحية ذات المشكلة، عجزهم عن التقدم المستدام، والسبب أغلبه يعود إلى افتقارهم للتعاطف مع الذات.
وإليك مثالًا:
كان أحد عملائي الشبان -ولندعه سَامْ- طالبًا جامعيًا متفوقًا في سنته الثالثة يدرس التمهيدي للطب. في العشرين من العمر، لم يحصل على أقل من تقدير امتياز في حياته، وحاليًا يركب قطارًا سريعًا نحو إحدى أرقى الكليات في البلاد.
كان طالبًا مجتهدًا جدًا بالإضافة إلى تفوقه العقلي. أخبرني سَامْ عن سمعته بأنه أكثر الطلاب اجتهادًا في كليته، لأنهم دائمًا ما يرونه يدرس في مكان ما في الحرم الجامعي في الصباح الباكر، والليل، وعطلات نهاية الأسبوع، وحتى الإجازات.
ولكن ثمَّة مشكلة … قلق مقعِد، وتسويف، واكتئاب ينشأ. ما لم يلحظه أحد في هذا النموذج الشاب من الذكاء والإنجاز هو احتراقه السريع.
لم تكن هذه الدراسة الإضافية والاجتهاد من أجل السبق بل من أجل النجاة، فقضى ساعات طويلة في المكتبة يدرس لأنه عانى من القلق والتسويف الحاد، لدرجة أنه احتاج ثلاثة أضعاف الوقت لينجز أعماله مقارنةً بزملائه.
بعد بضع جلسات فقط، اتضح لي لماذا كان سَامْ، بكل مواهبه، ومهاراته، ودوافعه، معرضًا لخطر ارتطام جسيم، فقد كان تعامله مع ذاته شنيعًا.
نشأ سَامْ في أسرة باردة المشاعر، ومتمحورة بجمود حول الإنجازات، فرسَّخ هذا عنده أسلوبًا موغلًا في السلبية وإصدار الأحكام في حديثه مع ذاته، فوبخ نفسه داخليًا باستمرار لشدة ضعفه، ولعدم اجتهاده بما يكفي، ولتظاهره بأنه أفضل مما هو عليه.
وعلى الرغم من نجاح هذه الإستراتيجية العكسرية للتحفيز إلى حد ما، والقائمة على الخوف والعار، فهي الآن تدمره، فقد قضى حياته كلها مهووسًا بالتركيز على تحسين الذات، خاصة على المستوى الأكاديمي، ولكنه الآن يُسحق تحت حِمل طموحاته لأنه يفتقر للب يستند عليه من الثقة بالنفس، أو التعاطف مع الذات، أو حب الذات، فسعيه الضيق نحو النجاح الأكاديمي لم يترك له وقتًا ليكتشف عن اهتماماته، أو بهجته، أو شغفه، أو قِيمه.
إن سَامْ مثال ممتاز -على تطرفه- لإبراز التناقض الجوهري في تحسين الذات:
إن قضيت الكثير من الوقت في التركيز على التحسين، فقدت الذات، ودون حس قوي بالذات، فإن كل خطوات التحسين مصيرها الانهيار.
لأنه بغض النظر عن مدى تفوقك أو موهبتك، ستتعثر، وتخفق، وتفشل حتمًا في نقطة ما، ولا علاقة لقدرتك على النهوض بعد عثرتك ومثابرتك بمهاراتك التقنية وتفوقك العقلي، إنما تتعلق بإحساسك بقيمة ذاتك.
لتحصد المرونة، ازرع التعاطف
فكر في أفضل المرشدين الذين قابلتهم في حياتك، ممن ساعدوك على النمو، قد يكونان أبويك، أو جدَّيك، أو قد يكونون معلميك، أو مدربيك، أو مستشاريك، أو حتى أصدقاءك المقربين. القاسم المشترك بينهم في نهجهم عند مساعدتك في النمو والنجاح، هو تحقيق التوازن بين التلقي بالقبول والتحدي. بعبارة أخرى، هم يدعمونك ويتلقونك بالقبول، وفي الوقت ذاته يتحدونك ويحفزونك، فيلاقونك حيث أنت الآن ويساعدون على دفعك إلى حيث تريد الوصول.
ولو أنا قد أحاطنا أشخاص كهؤلاء منذ صغرنا، لرسخنا هذا التوازن بين قبول الذات والتعاطف معها، والإنجاز والتحدي. ويمنحنا هذا التوازن الأدوات اللازمة للسعي والمضي قدمًا نحو أهدافنا وأحلامنا، بالإضافة إلى المرونة لنلملم شتات أنفسنا وننهض بعد الانتكاس.
وتزيد أهمية هذا مع تقدمنا في السن حيث تصبح الحياة أكثر تعقيدًا وتوترًا، وندرك أكثر فأكثر أن الانتكاس أمرٌ لا مفر منه، وندرك كذلك أن الموهبة والرغبة لا تكفيان لتحقيق أهدافنا، بل نحن بحاجة كذلك إلى المرونة والمثابرة.
ولكن الكثير منا لم يعرف أشخاص في حياته المبكرة ممن قدموا له نموذجًا لكيفية التعاطف مع الذات، بل في الواقع، ربما علمونا العكس، أَنه لِتحقق أشياء عظيمة وتحافظ على تحفزك، فعليك بالقسوة على نفسك. ولهذا لدى الكثير منَّا نفس الأسلوب القاسي في أحاديثه الداخلية مع ذاته، حيث أننا نعتقد أنها ضرورة لنحافظ على تحفزنا.
ولكن ماذا لو كان ذلك غير صحيح؟ ماذا لو أنك قدرت على المحافظة على دافعك وإنِتاجيتك، وتحقيق أشياء عظيمة، على الرغم من صوتك الداخلي ونظرتك الذاتية القاسيين، لا بفضلهما؟ ماذا لو كانت الأحاديث العسكرية لرقيبك الداخلي تدمر سعادتك وصمودك في وجه الشدائد بلا أي فائدة حقيقية في المقابل؟ ماذا لو كان الدواء محض آثار جانبية بلا أية فائدة؟
الطريق الوحيد المستدام إلى الإنجاز والسعادة هو زرع التعاطف
كان لأحد مرشديّ ومشرفيّ القدماء عبارة مفضلة وهي، «ليست المشكلة في سقوطنا من العربة، إن ما يؤلمنا هو التمرغ في الوحل».
بعبارة أخرى، لا مفر من الانتكاسات، لكنها ليست المشكلة، بل طريقة استجابتنا لها هي التي تميّزنا وتحدّد مستقبلنا.
للأسف، على مر السنين تدرب الكثير منا على الاعتقاد بوجوب القسوة لنحافظ على تخفزنا ونحقق أهدافنا وننال سعادتنا في الحياة، ولكن هذه النظرة القاسية للذات بالأحكام التي تصدر عنها هي عين ما يتسبب بفشلنا:
- إفساد حميتك الغذائية بأكلك وعاءً من المثلجات بعد العشاء ليس هو المشكلة، بل ما تفعله بنفسك من توجيه الاتهامات لذاتك وإِشعارها بالذنب وإهانتها، مما يدفعك إلى التخلي عن الحمية.
- تفويت يوم من التمارين الرياضية لأنك مرهق بعد العمل ليس هو المشكلة. إنما توبيخ نفسك لضعفك وعدم اِستمراريتك هو ما يحبطك ويسحب حافزك وطاقتك لِلعودة للتمرين غدًا.
إن ملكة عالم تحسين الذات على الحقيقة هي الاستمرارية، والحقيقة كذلك أن مفتاح تحقيق أهدافك والوصول الى النجاح في أي مجال يعود في الغالب إلى المثابرة، يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وعامًا بعد عام.
إني أعتقد بصحة هذا إلى حد كبير، ولكننا أكبر عائق أمام تلك الاستمرارية، تحديدًا في قسوتنا وحكمنا على أنفسنا بعد الانتكاسات. إننا نفشل في تحقيق أهدافنا لأننا نقنع أنفسنا بأننا فاشلون في كل مرة نتعثر فيها.
لا غرابة في أن ٩٥٪ من الحميات الغذائية تفشل! وأن ٩٢٪ من عضويات النوادي الرياضية تُجَمَّد بعد شهر!
الخبر السار أن هنالك حلًا سهلًا نسبيًا لهذا المأزق الذي نجد أنفسنا فيه جميعًا وهو:
توقف عن معاملة نفسك بوقاحة.
ستندهش حقًا من قدراتك حينما تزيل عبء إصدار الأحكام وانتقاد الذات، لا حاجة لأن تضيف أي شيء، أنت تملك المقومات، توقف عن إِخبار نفسك عكس ذلك.
لدى أحد كتابي المفضلين، جيمس كلير، قاعدة بسيطة لنفسه ليحافظ على استمراريته ونجاحه في أي مجال، من رفع الأثقال إلى الكتابة:
- لا تخطئ مرتين.
أحب هذه القاعدة لأنها تشير إلى أن الخطأ، وإن كثر، أمر لا مفر منه، إلا أنه حقيقةً ليس بذي أهمية، إذ أنك ما دمت لا تضخم أخطاءك فوق قدرها، فسوف تفوز لا محالة على المدى البعيد.
الخلاصة
أعتقد أن السعي لتحسين الذات سعيٌ نبيل، سواء كان بإنقاص الوزن أو تعلم لغة الماندرين الصينية أو إنشاء مدونة، فإن الرغبة في التحسن والنّمو أمر رائع.
ولكن النمو الحقيقي المستمر لا يمكن أن يُبنى إلا على أساس اللطف والتعاطف، ولهذا حتى إذا كانت عبارة «أَحب نفسك» تبدو مبالغة، فحاول ببساطة أن تكون أكثر لطفًا مع نفسك، لا سيما حين السعي وراء شيء صعب وذي معنى.
تذكر:
- العثرات أمر طبيعي لا مفر منه، والمهم هو كيف نستجيب لها.
- لا تتمرغ في الوحل، ذكّر نفسك أن العربات بطبيعتها وحوش متخبطة وسارع بالعودة إلى الركوب.
- لا تخطئ مرتين، أفضل طريقة للمحافظة على استمرارية التقدم هي أن تكون لطيفًا مع نفسك أثناء الانتكاسات.
- تحدث إلى نفسك كما تتحدث إلى صديق، ادفع نفسك نحو النجاح، ولكن كن مشجعًا عندما تخطئ.
أنت تملك المقومات، صحيح أنك تحمل أثقالًا، ونقاط ضعف، وأشياء تندم عليها، وأمورًا تتطلب تحسينًا، ولكنك في أعماقك، تملك المقومات.
اعتد على تذكير نفسك بذلك وبهذا تكون قد تعلمت أكبر حيلة من حيل تحسين الذات.
أحدث التعليقات