الحياة قصيرة

بقلم: بول جرهام
ترجمة: محمد بدر الدين عمر
تدقيق ومراجعة: أحمد موسى
يعلم الجميع أن الحياة قصيرة. لكني لطالما تساءلت عن الأمر مذ كنت طفلًا، هل الحياة قصيرة حقًا؟ أم أننا في الواقع نتذمر من محدوديتها لا أكثر؟ هل سنقول الأمر نفسه إن عشنا عشرات أضعاف ما نعيشه الآن؟
لم أجد طريقة للإجابة على هذا التساؤل منذ وقتها فكففت عن التفكير فيه، ثم صار لدي أطفال، فكانت تلك التجربة وسيلة للإجابة عن ذاك التساؤل مفادها بأنّ الحياة فعلًا قصيرة.
أراني إنجاب الأولاد كيف أن كمية متصلة كالزمن يمكن أن تتحول إلى كميات منفصلة عن بعضها. لديك فقط ٥٢ عطلة أسبوعية تقضيها مع ابنك ذي العامين، وسحر عطلة نهاية العام (الكريسماس) يُبهر الأطفال من عمر الثالثة حتى العاشرة على الأكثر؛ أي أنّ فرصتك في مشاهدة تجربة طفلك مع الكريسماس لن تتكرر أكثر من ثماني مرات. ومع استحالة القول بكثرة أو قلة شيء كميته متصلة كالزمن، تلاحظ أنّ الثمانية ليست كثرة من أي شيء مهما كان. إن ملأت يدك بثماني حبات من الفول السوداني أو كان لديك رف به ثمانية كتب لتختار منها ما تقرأه، فسيظهر أنه قدر محدود مهما عشت من سنوات.
الحياة إذن قصيرة بالفعل، فهل تشكّل معرفة ذلك أي فرق في حياتنا؟
جوابي هو نعم، لأن هذا يعني بأنّ نقاشاتنا المحتدمة ذات طابع «الحياة أقصر من أن نهدرها في كذا» لها أثر كبير، فتلك العبارة ما عادت استعارة كلامية. لذا إن وجدت نفسك تفكر في شيء ما بهذه الصيغة، فعليك محاولة التخلص منه ما استطعت.
عندما أسأل نفسي عن الأشياء التي وجدت أنها لا تستحق العناء بسبب قصر الحياة، فأول ما يخطر على بالي هو «التفاهات». أدرك أنّ هذه الإجابة مستَهلكة بعض الشيء، فأقرب وسيلة تُعرّف بها التفاهات هي أنها الأشياء التي لا تستحق المحاولة لقصر الحياة. ومع ذلك فللتفاهات صفة مميزة؛ حيث يظهر الزيف بيّنًا عليها كونها تجارب حياتية لا فائدة لها.
إن سألت نفسك إن كنت تقضي وقتك في التفاهات، فأنت غالبًا تعلم الجواب؛ اجتماعات غير ضرورية، ومنازعات لا طائل منها، والبيروقراطية، والتصنّع، والتعامل مع أخطاء الآخرين، والازدحام المروري، والإدمان على الترفيه غير النافع.
تتسلل هذه الأشياء إلى حياتنا بطريقتين: إما أنها تُقحَم فيها إقحامًا أو أنها تخدعك لتسمح لها بالدخول. التفاهات التي تضعك فيها الظروف عليك تحمل بقدر، فجني المال أغلبه قيام بمهام، ومبدأ العرض والطلب يؤكد أنه كلما كانت الأعمال مربحة، قل القائمون بها، مما يعني أن التفاهات التي ستُقحم في حياتك قد تكون أقل مما تظن. لطالما اعتزل الكثيرون نمط الحياة الاعتيادي ذاهبين للعيش في مكان فرصه أقل في عرف الناس، لكن الحياة فيه واقعية أكثر من التكلف، ولربما يزداد هذا الأسلوب انتشارًا. لكن لا تقلق، يسعك فعل ذلك بشكل أقل حدة دون ترك مكانك.
الوقت الذي يتحتم عليك قضاءه في التفاهات يتفاوت حسب الموظفين، فأغلب الشركات الكبيرة (والكثير من الصغيرة) غارقة في التفاهات، لكن إن قدمت بشكل واعٍ تجنب التفاهات على أمور أخرى كالمال والوجاهة الاجتماعية، فعلى الأرجح ستجد موظفين لا يستنزفون كثيرًا من وقتك.
إن كنت مستقلًا أو صاحب شركة صغيرة فيمكنك فعل ذلك على مستوى العملاء الأفراد، فإن تخليت عن العملاء السيئين أو اجتنبتهم فستقلل من التفاهات في حياتك بشكل تفوق قيمته ما قد تخسره من عائد مادي.
وبخلاف التفاهات المفروضة، فالتفاهات التي تحتال وتتسلل إلى حياتك تتحمل وحدك مسؤوليتها، ومع ذلك فقد يكون التخلص منها أصعب، فالأشياء التي تستدرجك لتصرف فيها أوقاتك لابد أن تكون شديدة المكر. أحد الأمثلة في حياة الكثيرين هو المجادلة على الإنترنت. ينتقدك الآخرون ويهاجمونك وأحيانًا يكون الهجوم فجًا للغاية، فتدافع غريزيًا عن نفسك. لكن كحال كثيرٍ من الغرائز، هذه الغريزة ليست مصممة لعالمنا الحاضر، فيُفضل في معظم الأحيان مقاومتها وترك الدفاع عن نفسك، وإلا فهؤلاء المنتقدون سيسلبون منك حياتك حرفيًا.
قد تُدمن على المجادلة على الإنترنت بشكل عرضي لكن هناك ما هو أخطر منها. كما كتبت سابقًا، أحد ما جلبه لنا التطور التقني هو أنّ الأشياء التي نحبها تسبب الإدمان مما يستوجب زيادة الجهد الواعي لتجنبها، أي أننا يجب أن ننظر لأنفسنا من الخارج ونسأل: «أهذا ما أريد أن أقضي عمري فيه؟»
وكما ينبغي أن يُبذل الجهد في تجنب التفاهات، يبذل كذلك في السعي بهمة والبحث وراء الأشياء المهمة. ويختلف ذلك باختلاف الناس، وأغلبنا يحتاج أن يعلم ما هو مهم عنده. قلةٌ فقط هم المحظوظون بالإدراك مبكرًا أنهم يحبون الرياضيات أو الاعتناء بالحيوانات أو الكتابة، ومن ثم اكتشاف وسيلة لإمضاء وقت أطول في فعل ما يحبون. لكن معظم الناس تبدأ رحلتهم بحياة تختلط فيها الأشياء المهمة مع التافهة، فيبدؤون تدريجيًا بتعلم التفريق بين المهم وغير المهم.
الكثير من هذا اللغط يتم عن طريق المواقف المصطنعة خصوصًا عند الشباب. في المرحلة المتوسطة والمرحلة الثانوية، يبدو رأي الآخرين فيك أهم ما في الوجود، لكن عندما تسأل البالغين عن المفاهيم التي كانوا يدركونها بشكل خاطئ في تلك المرحلة، جميعهم تقريبًا سيُجيب بأنهم كانوا يهتمون بإفراط بآراء الآخرين.
أحد الطرق التي تساعد في اكتشاف وتمييز المهم أن تسأل نفسك إن كنت ستهتم بالأمر في المستقبل. الأشياء المهمة زيفًا عادةً ما تبدو بالغة الأهمية، فتخدعك بذلك. محصلة تلك الأشياء ليست بذات قيمة لكن ضوضاءها تخترق وعيك كالإبر.
الأشياء المهمة فعلًا لا يلزم أن تكون بالضرورة ما يدعي الناس أنه «مهم»، فتناول القهوة مع صديق أمر مهم، ولن تشعر مستقبلًا بأن ذلك كان مضيعة للوقت.
أحد الأشياء الرائعة في أن يكون لك أطفال هو أنهم يجعلونك تعطي وقتك لما هو حقًا مهم: أطفالك. فهم يمسكون بيدك وأنت تُحدق إلى هاتف العمل قائلين: أتلعب معنا؟ واللعب معهم هو غالبًا الخيار الأفضل لتجنب التفاهات.
إن كانت الحياة قصيرة فعلينا أن نتوقع أن يباغتنا قصرها، وهذا ما يحدث غالبًا. في اللحظة التي تظن أن الأمور ستظل كما هي، تخسر كل شيء في اللحظة التي تليها مباشرة. تظن أنك تستطيع كتابة ذلك الكتاب في أي وقت، أو تسلق ذلك الجبل، أو أي شيء آخر، ثم فجأة تدرك أن الفرصة قد ضاعت. أكثر تلك الفرص الضائعة إيلامًا هي عندما تفجَع بموت أحدهم، فحياتهم هي كذلك قصيرة. بعد وفاة أمي تمنيت لو أنني قضيت معها وقتًا أطول. لقد كنت أقضي أيامي وكأنها ستبقى، وطبيعتها الهادئة كانت تشجع ذلك الوهم وتمنيه، لكنه كان وهمًا، وأظن أنّ الكثيرين يرتكبون الخطأ ذاته.
الطريقة المعتادة لتجنب تلك المباغتة هي أن تكون واعيًا لما يحدث. في الماضي عندما كانت الحياة أكثر أهمية، اعتاد الناس أن يكونوا مدركين للموت لدرجة تبدو في وقتنا الحالي سقيمة بعض الشيء. لسبب ما لا أرى التذكير الدائم بشبح الموت الهائم على الرؤوس صائبًا. ولعلنا نجد الجواب بالنظر من الجهة المقابلة. نمِّ لديك عادة التعجل في فعل الأمور التي تود فعلها، لا تنتظر لكي تتسلق ذلك الجبل أو تكتب ذلك الكتاب أو تزور والدتك. لا حاجة للتذكير الدائم لنفسك بالسبب وراء تلك العجلة، فقط لا تنتظر.
أمران إضافيان أذكرهما يفعلهما المرء عندما لا يمتلك الكثير من شيء ما: أن يحاول تحصيل المزيد، وتوفير ما يمتلكه الآن، وكلاها ينطبقان هنا.
نمط حياتك يؤثر على عدد السنوات التي ستعيشها. معظم الناس، وأنا منهم، بوسعهم العيش بصورة أفضل.
لكنك في الأغلب ستحصّل فائدة أكثر أثرًا بالتنبه للوقت الذي بين يديك، من السهل ترك الأيام تنساب وتمضي. «الانسياب» شيء يحبه أصحاب الخيال الواسع، لكن له قريبًا شريرًا يحرمك التوقف والتمتع بالحياة في خضم الرتابة اليومية من الأعمال والمنبهات. حرق الأيام لجيمس سلاتر، قد طُبع في ذهني عنوان هذا الكتاب لا محتواه.
يمكن إبطاء الوقت بدرجة، مهارة قد نميتها بمساعدة الأولاد. عندما يكون لك أولاد صغار، تجد كثيرًا من اللحظات الأخاذة التي لا يسعك إلا أن تلاحظها.
مما يساعد كذلك هو الشعور بأنك استخلصت كل ما يمكن من التجربة. حزني على وفاة أمي لم يكن لأنني أشتاق إليها فحسب، بل لأنني أفكر في كل الأِشياء التي كنا نستطيع فعلها ولم نفعلها. وعلى العكس، ابني البكر سيبلغ السابعة عما قريب، ومع أنني أشتاق إلى عمره عندما كان في الثالثة، إلا أنني لا أندم على حياتي حينها، فقد عشنا أجمل لحظات يمكن لأب أن يقضيها مع ابنه في الثالثة.
قلّم الهراء دون كلل، ولا تؤجل الأمور المهمة، وانتفع بما لديك من وقت، تلك واجباتك في حياة قصيرة.
أحدث التعليقات