وباء كورونا يضع أخلاقنا تحت المجهر
هل تدخر أوراق الحمام أم تقضي احتياجات المسنين في أوقات فراغك؟
نُشر في ٢٥ مارس ٢٠٢٠
ترجمة: هناء القحطاني @I_Haaa8
تدقيق: رزان العيسى @RAleesa
مراجعة: أسامة خان
نعيش اليوم فترة عصيبة، ففي نهاية شهر فبراير بدأ الأمريكيون في تخزين أوراق الحمام، والمياه، والمواد الغذائية طويلة الأجل، ومعقمات الأيدي، والأقنعة، وغيرها من أدوات الحماية الشخصية، حتى خلت أرفف الأسواق، والمتاجر، والصيدليات ومحلات الأسلحة من كل شيء. وقد انتشرت مقاطع فيديو تظهر تقاتل الناس على أكياس المعكرونة وأوراق الحمام، فيما عانت المستشفيات ومرافق الفحص من نقص في الأقنعة الطبية وأقنعة إن ٩٥، حيث ذُكر أن شحنات جديدة من أقنعة الوجه ومعقمات اليد اختفت في ظروف غامضة نهاية شهر مارس. وفي الوقت نفسه عجت تقارير الأخبار بعمليات الاحتيال، حيث يُخدع الناس ويستدرجون لدفع ثمن مواد طبية غير متوفرة، أو لقاحات مزورة، أو معدات الفحص، أو علاجاتٍ غير موجودة.
هل يمكن أن نعذر هذه السلوكيات الأنانية والفاسدة بالأزمة الصحية الحالية؟
قدمت الفيلسوفة السياسية هانا أريندت حالة مشهورة لهذه النظرية في كتابها « The Banality of Evil». حيث ذكرت أنه إذا وُضِع البشر في ظروف قاسية، فجميعنا سيتصرف تصرفات سيئة، ليس لأننا نستمتع بإيذاء الأخرين أو المخاطرة بسلامتهم، ولكن بسبب عجز البشر الكامل على اتخاذ القرارات تحت الضغط.
وقد أعدت أريندت نظريتها حول تفاهة الشر بعد مشاهدة أجزاء من محاكمة مجرم الحرب النازي الضابط أدولف ايخمان المسؤول عن نقل اليهود إلى مخيمات الموت إبان فترة الهولوكوست. ذكرت أريندت في تحليلها المثير للجدل بأن المظاهر الأولية مناقضة لما آلت له الأمور، فقد كان ايخمان شخصًا طبيعيًا، مملاً، وملتزماً، ولم يكن منحرفاً أو سادياً، بل مجرد شخص طبيعي على نحو ممل. وزعمت أنه عند وضع الأشخاص الطبيعيين في ظروف قاسية فإنهم يتصرفون تصرفات سيئة على الرغم من عدم رغبتهم فيها فعلياً.
ربما يتساءل البعض ما هو الرابط بين نظرية أريندت وبين أزمة كورونا التي نشهدها حالياً، وهل يُبنى على ذلك توقع قيام أغلب البشر بأمور أنانية خلال الأزمة الحالية؟
بالتأكيد لا!
فعندما ذكرت أريندت أننا سنقوم بما قام به ايخمان لو كنا مكانه، تجاهلت الحقيقة المعقدة في علم النفس التي تقول إن الظروف القاسية هي ما تسمح للاختلافات في شخصياتنا بالبروز.
يعتمد اختيارنا للتصرف على أمرين اثنين: شخصيتنا والظروف التي نعيشها. فما يُطلق عليه أحيانا «حالات قهرية» هي في الواقع حالات يتحكم بها القانون أو العادات أو التوقعات تحكماً شديداً، لذلك تعتبر هذه الأمور محددات قوية للسلوك الذي سنقوم به. وعلى النقيض من ذلك ففي حالة الرخاء يقرر الأشخاص تصرفاتهم بأنفسهم، لذلك لا تعتبر هذه الأمور ذات تأثير كبير على سلوكنا.
تُعد المحاكمات الجنائية مثالاً رئيسيًا للحالات القهرية، فوحدها القواعد والإجراءات تقرر من سيتحدث ومتى، ومضمون حديثه. بينما يُعد البقاء في المنزل برغبتك مثالاً على حالات الرخاء، حيث تستطيع القيام بأي أمر ترغب به وفي أي وقت تريده. أنت حر في القيام بأي شيء طالما أنك لا تزعج جيرانك.
صحيح أنك لا تزال محكوماً بالقواعد والقوانين والمبادئ الأخلاقية، ولكن قراراتك هنا ليست مقيدة بالطريقة التي ستكونها لو كنت شاهدًا في محاكمة داخل أروقة المحكمة.
وقد أصابت أريندت عندما قالت بأن البشر يتصرفون تصرفات متشابهة عندما يكونون في أوقات الشدة أكثر مما لو كانوا في أوقات الرخاء. فعلى سبيل المثال يميل زوار المحكمة إلى البقاء ساكنين في أماكنهم، فنادرا ما تراهم يتشقلبون في الممرات، بينما قد تتشقلب في منزلك! لكن على الرغم من ميلنا للتصرف بشكل مماثل في أوقات الشدة، وبالتفرد في أوقات الرخاء ( فمثلاً يقرأ بعض البشر عن كيفية الوقوف على اليدين بينما يمارسها الأخر) إلا أن أوقات الرخاء لا تدفع أحداً إلى اتخاذ قرارات أخلاقية مهمة. إن القراءة عن كيفية الوقوف على اليدين أو ممارستها سلوكين مقبولين في حرمة منزلك ولكنهما سلوكين محايدين من الناحية الأخلاقية.
بالتأكيد ستأخذ نسبة قليلة من الشعب قرارات متوقعة كالغش، والسرقة، والقتل عندما يعتقدون أنه بإمكانهم الإفلات من تبعات هذه الجرائم، ولكن معظمنا لن يفعل ذلك، حيث تتصرف الأغلبية بطرق محايدة أخلاقيًا.
لكن قد تُحركنا الأزمات وتدفعنا لاتخاذ قرارات تخون طبيعتنا البشرية، سواءً كنا نميل إلى التفكير بأنفسنا، أو كنا نميل للإيثار. فبينما كان النازي ايخمان يرسل اليهود إلى مخيمات الموت بلا رحمة، خاطر أوسكار شندلر بكل شيء في سبيل إنقاذ ما يستطيع إنقاذه من الشعب اليهودي.
وعلى الرغم من الاختلاف الشاسع بين الأوبئة – وباء كورونا المعاصر- وبين الحروب وجرائم الإبادة، إلا أنها تقدم لنا لمحة بسيطة فقط عن مدى اختلاف شخصياتنا و طبيعتنا نحن البشر.

وكما ذُكر على نطاق واسع في وسائل الإعلام، فقد اختار عدد كبير من الناس القيام بأعمال العطف والإحسان دون تخطيط.
يقضي أشخاص عاديين أوقات فراغهم في التسوق وإحضارالأدوية لكبار السن أو جيرانهم المرضى، والطبخ للمرضى أو محدودي الدخل، وإيصال غداء المدارس للأطفال المحتاجين، وتقديم المواساة عبر الأنترنت لأولئك الذين فقدوا أحبتهم، والتبرع بالدم، وتقديم القهوة للممارسين الصحيين أو رعاية أطفالهم وحيواناتهم الأليفة.
وبالحديث عن أعمال العطف والإحسان، يضع ملايين الممارسين الصحيين وموظفي الصفوف الأولى حياتهم وحياة أحبائهم على المحك يوميًا في سبيل الحفاظ على أرواح المصابين بالفيروس والحد من انتشاره.
وقد ذكرت (Economic Times) أن الإحسان انتشر انتشارا كبيراً في وقت الأزمة. حتى سُميت هذه الظاهرة بـ «إحسان كورونا».

وبنفس قوة انتشار ظاهرة «إحسان كورونا» انتشرت ظاهرة أخرى على النقيض تمامًا تسمى «قسوة كورونا» أو «وحشية كورونا». فعلى سبيل المثال، أظهر بعض الشباب لامبالاة صادمة بقوانين التباعد الاجتماعي مخاطرين بحياتهم من أجل راحتهم ومتعتهم الآنية. فيما عبر السياسيين والمشرعين عن استعدادهم بالتضحية بالمكونات الأكثر ضعفا في سبيل حماية اقتصاد الدولة، كذلك تفشت حيل جمع التبرعات لجمعيات مُختلقة، من خلال رسائل البريد الإلكتروني التصيدية التي تعِدُ بتقديم مساعدات مالية، أو شيكات حكومية، أو استرداد الأموال من شركات الطيران، أو الفحوص المزيفة، أو العلاجات أو اللقاحات.
وقد سمعنا اليوم عن تخلي مقدمو الرعاية في دور المسنين في إسبانيا عن وظائفهم تاركين وراهم سكان تلك الدور لملاقاة مصيرهم. وفي الأسبوع الماضي، حُذِرنا من وجود محتالين يجوبون المنازل مرتدين معدات وقاية بيضاء، وأقنعة تنفس مدعين قيامهم بفحوصات طبية للوقاية من فيروس كوفيد ١٩ لكن غايتهم كانت سرقة المنازل عوضًا عن ذلك.
لحسن الحظ يعود الأفراد الذين يقومون بتصرفات أنانية إلى رشدهم في نهاية المطاف. ومن الأمثلة على ذلك، تبرعت مجموعة كانت قد خزنت أقنعة ومعدات طبية أخرى بهذه المستلزمات للمستشفيات ومواقع الفحوص الطبية قبل أن يبلغ الوباء ذروته بفترة طويلة. مع ذلك لاتزال هناك فئة لم تشعر بالسوء حيال تخزينها لأقنعة التنفس إن ٩٥ رغم علمها بنقص تلك المعدات لدى الممارسين الصحيين الذين لجأوا إلى عصابات الرأس (Bandanas) والأوشحة لحماية أنفسهم من المرض.
في مقابلة مع الروائية إميلي سانت جون مانديل في ٢١ مارس ٢٠٢٠ سأل سكوت سيمون مؤلفة رواية (Station Eleven) -أفضل روايات الأوبئة مبيعًا- مانديل عن رأيها حول مساهمة الوباء الحالي بإنتاج «مجموعة غزيرة من الروايات والقصائد والأغاني والهامات فنية جديدة».
أجابته: من المحتمل أن يكون هذا تحديًا.
وسألت بلاغيًا: كيف لك أن تكتب رواية عن «فيروس كورونا » مختلفة عن باقي روايات كورونا الأخرى؟
ومقصد مانديل هو أنه متى ما أنتهى هذا الوباء ستكون لدى معظمنا روايات متشابهة لنرويها عن هذا الفيروس وهي غالباً قصة البقاء في المنزل. ولكن بما أننا بشر ونمتلك فضائل ورذائل متفاوتة، ستكون قصصنا مُختلفة. فسيكون لدى بعض الناجين قصص مروعة حول اعتدائهم على المتسوقين المسنين أو نهبهم للمستشفيات في سبيل الحصول على أقنعة الوجه. فيما سيكون لدى العديد قصصاً بطولية تثلج الصدر حول تفانيهم في سبيل حماية أرواح الناس واستخدامهم لقناع الوجه ذاته أكثر من مرة، وإقناعهم لملاك المتاجر المحلية بتخصيص ساعات محددة لكبار السن كونهم الفئة الأكثر تضرراً من هذا الوباء، وإقناعهم السياسيين من الطرفين على التوحد والتصرف بإحسان عوضًا عن التفرق والإدانة.
إن رؤية هذا الاختلاف الهائل في كيفية اختيارنا نحن البشر طريقة تصرفاتنا في أوقات الأزمات دليل على أنه في بعض الأحيان يتطلب الأمر وباءً أو حرباً عالمية حتى تظهر شخصياتنا الحقيقية للعلن.
المراجع:
Arendt, H. (1963/2006). Eichmann in Jerusalem: A Report on the Banality of Evil, New York: Penguin
أحدث التعليقات