ثنائيو اللغة أذكى من غيرهم.. لماذا؟

ترجمة: لؤلؤة العيسى
تدقيق: منال القحطاني
تلخيص: غلا الرشيد
القُدرة على التّحدث بلغتين والإلمام بهما بدلاً من لغةٍ واحدة فقط في زمنٍ تتزايد فيه العولمة لها فوائد عملية واضحة.
لكن في السنوات الأخيرة بدأ العلماء بالإستنتاج أن إيجابيات ثنائية اللغة لا تقتصر على إعطائك القدرة على الحديث مع أكبر عدد من الناس فحسب،بل تجعلك أذكى أيضاً؛ حيث تمنح تأثيراً عميقاً على الدماغ كتطوير المهارات الإدراكية التي لا تتعلق باللغة والحماية من مَرض الخرف عند التقدم في العمر.
هذا الرأي تجاه ثنائية اللغة يختلف بشكل واضح عن المفهوم السائد لها في القرن العشرين، فالباحثون و المربون و المسؤولون لطالما اعتبروا اللغة الثانية عائقاً للتقدم من الناحيةِ المعرفية حيث تعيق تقدم الطفل أكاديمياً وذهنياً.
لم يخطئ العلماء بشأن كونها عائقاً: حيث أثبتت الدِراسات أن نظَاميّ اللغتين في دماغ الشخص ثنائيي اللغة تكون نشطة حتى لو كان يستعمل لغة واحدة، و بالتالي تخلق حالات من التضارب حيث يعيق نظام إحدى اللغتين نظام اللغة الأخرى، و لكن يقوم الباحثون مؤخراً بالإستنتاج أن هذا العائق لا يُعد إعاقة أكثر من كونه نِعمة مخفية؛ فهو يجبر الدماغ على حل التعارض الذهني حيث يعد تمريناً جيداً للدماغ ويعمل على تقوية العضلات الإدراكية.
على سبيل المثال يبدو الأشخاص ثنائيو اللغة أمهر من أحاديّي اللغة في حل أنواع مُعينة من الألغاز الذهنية، ففي دراسة أجرتها أخصائيات علم النفس (إيلين بيالستوك) و(ميشيل مارتن-ري) عام ٢٠٠٤ على عددٍ من الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة حيث شمِلت المجموعة الأولى أطفالاً ثنائيّي اللغة و المجموعة الأخرى أحاديّي اللغة، و طُلِب منهم فرز دوائر زرقاء و مربعات حمراء معروضة على شاشة الحاسوب و وضعها في صندوقين رقميين أحدهما عليه علامة مربع أزرق و الآخر عليه علامة دائرة حمراء.
في المهمة الأولى كان عليهم أن يصنّفوا الأشكال حسب اللون، حيث يتم وضع الدوائر الزرقاء في الصندوق الذي عليه مربع أزرق و المربعات الحمراء في الصندوق الذي عليه دائرة حمراء، كِلا المجموعتين استطاعت فعل ذلك بسهولة مماثلة.
في المهمة الثانية كان عليهم أن يصنفوا الأشكال حسب الشكل الهندسي حيث تعد هذه المهمة أكثر تحدٍ و صعوبة لأنها تتطلب وضع الأشكال في صندوق بلون مخالف، في هذه المهمة كان ثنائيو اللغة أسرع أداءً من أحاديّي اللغة.
تُشير الأدلة من تلك الدِراسات أن تجربة ثُنائية اللغة تُطور ما يسمى بالوظيفة التنفيذية للدماغ وهي نظام أوامر يوجه عمليات الإنتباه التي نستخدمها للتخطيط و حلّ المُشكلات و أداء المهام الذهنية الأخرى، و تتضمن تلك العمليات القدرة على تجاهل ما يشتت الإنتباه و القدرة على التركيز و تحويل الإنتباه عمداً من أمر إلى آخر مع الإحتفاظ بالمعلومات كتذكر سلسلة من الإرشادات أثناء القيادة.
لماذا يقوم هذا التضارب بين نظاميّ اللغة النّشِطينِ معاً بتطوير تلك الجوانب الإدراكية؟
حتى مؤخراً لطالما اعتقد الباحثون أن ميزة ثنائية اللغة تنبع بالدرجة الأولى من القدرة على الكبت عن طريق التمرن على قمع نظام إحدى اللغتين: و هذا القمع كما كان يُعتقد قد يساعد في تمرين عقل الشخص ثنائي اللغة على تجاهل ما يشتت انتباهه وتركيزه.
ولكن هذا التفسير يظهر بشكل متزايد أنه غير كافٍ حيث أظهرت الدراسات أن ثنائيّي اللغة أفضلُ أداءً من أحاديّي اللغة حتى في المهام التي لا تتطلب كبت إحدى اللغتين كتمرير خط خِلال سلسلة أرقام مبعثرة على صفحةٍ ما.
الفرق الرئيسي وقد يكون الأساسي بين ثنائيي اللغة و أحاديّي اللغة : هو القدرة المتزايدة على مراقبة البيئة من حولهم، فكما يقول (ألبرت كوستا) الباحث في جامعة بومبيو فابرا في أسبانيا : “ثنائيو اللغة كثيراً ما يقومون بالتحويل بين اللغتين، فقد تتحدث مع والدك بلغة و مع أمك بلغة أخرى” وفي دراسة أجراها السيد كوستا و زملاؤه على ثنائيي اللغة (يتحدثون الألمانية والإيطالية) و أحاديّي اللغة الذين يتحدثون الإيطالية فقط تقوم بمقارنة المجموعتين في مهام تتعلق بالمراقبة و الاستماع.
وجد أن ثنائيّي اللغة لم يقوموا بأداء أفضل فحسب بل كان نشاط دماغهم أقل من أحاديّي اللغة حيث أنهم كانوا أبرع في ذلك، و يقول السيد كوستا “يتطلب الأمر منا الإنتباه لكل التغييرات التي تحدث حولنا بنفس الطريقة التي نقوم فيها بمراقبة ما حولنا أثناء القيادة”.
يظهر أن تجربة ثنائية اللغة تؤثر في الدماغ مُنذ الطفولة حتى عُمرٍ متقدم (و يُعتقد أن ذلك ينطبق حتى على من يتعلم اللغة الثانية في مرحلة متقدمة من عمره!).
في دراسة قادها (ايجنس كوفاكس) عام ٢٠٠٩ في المدرسة العالمية للدراسات المتقدمة في مدينة تريستي في إيطاليا قام بتعريض أطفال في عمر ٧ أشهر للغتين منذ ولادتهم و قام بمقارنتهم مع أقرانهم الذين لم يتعرضوا سوى للغة واحدة.
في مجموعة من التجارب المبدئية يتم تشغيل مواد مسموعة للرُضّع ثم يتم إظهار دمية في جانب واحد من الشاشة التي أمامهم في كل مرة، وفي المجموعتين استطاع الرضع توقع مكان الدمية حيث ينظرون للجهة ذاتها التي تظهر منها تلك الدمية، و لكن في مجموعة أخرى من التجارب عندما بدأت الدمية بالظهور من الجانب المعاكس في الشاشة استطاع الرضع المعرضين للغتين تحويل توقعهم إلى الجهة الجديدة بسرعة في حين لم تكن المجموعة الأخرى قادرة على ذلك.
تمتد تأثيرات ثنائية اللغة أيضاً حتى السنوات الأخِيرة من عُمرِ الشخص، حيث تم في دِراسة حَديثة على أشخاص ثنائيّي اللغة (يتحدثون اللغة الإنجليزية و الإسبانية) في الرابعة و الأربعين من أعمارهم، و قاد تلك الدراسة المتخصص في علم النفس العصبي (تامار غولان) من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، حيث وجد أن الأشخاص البارعين في اللغتين ( تم قياس لغتهم من خلال تقييم مقارن للمهارة اللغوية لكلا اللغتين) كانوا أكثر مقاومة لبداية مرض الخرف و الأعراض الأخرى لمرض الزهايمر.
فكلما زادت مهارتك في اللغتين تأخرت أعراض تلك الأمراض.
لم يشك أحَد أبداً بقوة اللغة، و لكن من كان يتخيل أن الكلمات التِي نَسمعها و الجُمَلَ التي نَتحدثها قد تترك ذلك الأثر العميق؟
أحدث التعليقات