الإيمان الأعمى دون دليل هو خطأ أخلاقي دائمًا

ترجمة بتصرّف لمقال: (Believing without evidence is always morally wrong By Francisco Mejia Uribe)
مصدر الصورة Unsplash

الكاتب: فرانسيسكو ميخيا أوريبي.
ترجمة: هاجر البدوي. @hagerelbadawy
تدقيق: ليلى عامر.
مراجعة نهائية: ياسمين القحطاني. @selva1999

 

ربما لم تسمع قط عن ويليام كينغدون كليفورد، وذلك لأنه ليس ضمن القائمة التي تضم أشهر وأعظم الفلاسفة على مرّ العصور، وربما لأنه لقىي حتفه في سن الثالثة والثلاثين، ولكنني أؤمن أنه الشخص الوحيد دونًا عن سواه الذي قد تكون لأفكاره صلة بعصرنا الرقمي المعقد الذي يُسيّره الذكاء الاصطناعي.

قد يبدو هذا غريبًا عندما نتحدث عن بريطانيّ ينتمي للعصر الفكتوري؛ فأشهر أعماله الفلسفية لا تتجاوز مقالًا واحدًا منذ ١٥٠ عامًا تقريبًا، ورغم ذلك، فإن عصرنا الحالي يتطابق كليًا مع فِكر كليفورد. إن ادعائه الذي أبداه في السابق مبالغًا فيه حينما قال: «تصديق أي شيء بناءًا على أدلة غير كافية أمر خاطئ دائمًا، في أي مكان ومن أي شخص» لم يعد غلوًا بل حقيقة واقعية تمامًا.


يقدم لنا كليفورد في كتابه قواعد المعتقدات ١٨٧٧م ثلاث حُججٍ حول سبب وجود التزام أخلاقي حول الاعتقاد المسؤول، أي أن نصدق فقط ما نملك دليلًا كافيًا حول صحته وما تحرينا بشأنه بجدية، وتبدأ حجته الأولى بملاحظة بسيطة مفادها أن معتقداتنا تؤثر بالضرورة على أفعالنا، وسيتفق الجميع غالبًا على أن سلوكنا يتشكل من خلال ما نعتقد صحته بشأن العالم، أي من خلال ما نؤمن به، فلو اعتقدت بأن السماء تمطر بالخارج، فسأحضر مظلةً عند خروجي، وإذا اعتقدت بأن سيارات الأجرة لا تقبل بطاقات الائتمان، فسأحرص على أن يكون لدي بعض النقود قبل أن أستقل واحدة، وإذا اعتقدت بأن السرقة فعلٌ مشينٌ، فسأدفع ثمن مشترياتي قبل مغادرة المتجر.


إن ما نؤمن به -بناءًا على ذلك- لذو أهميةٍ واقعيةٍ بالغة، كما أن المعتقدات الخاطئة حول الحقائق المادية أو الاجتماعية تقودنا عمومًا إلى عادات سيئة في السلوك، والتي يمكنها تهديد بقائنا في الحالات الأكثر تطرفًا، فإذا كان المغني أر. كيلي يؤمن بصدق في كلمات أغنيته «أعتقد أنه بإمكاني الطيران- ١٩٩٦م» فأستطيع أن أضمن لك أنه لن يتواجد بيننا الآن.

إن ما على المحكّ هنا إذًا ليس الحفاظ على بقائنا فقط، فكوننا كيانات اجتماعية، فستؤثر أفعالنا على من حولنا بالضرورة، إذًا فالاعتقاد الفاسد يضع الآخرين تحت التهديد. كما يحذر كليفورد قائلًا: «إننا جميعًا نعاني بشدة بما فيه الكفاية تحت وطئة انتشار المعتقدات المغلوطة وتأييدها وما تؤدي إليه من أفعال خاطئة ومميته…».
إن الممارسات المدمرة الناتجة لتشكيل المعتقد باختصار فاسدة أخلاقيًا؛ فعندما نصدق شيئًا ما، فإن المخاطر الناتجة عن ذلك تصبح عالية جدًا كوننا اجتماعيين.


كما يُعد النقد الأكثر منطقية هي الحجة الأولى، وهو أن بعض قناعاتنا تؤدي إلى أفعالٍ ربما تكون مدمرةً بالنسبة للآخرين، إلا أنه في الواقع معظم ما نؤمن به قد لا يكون ذا أهمية بالنسبة لغيرنا، وعلى هذا النحو، فإن الادعاء كما فعل كليفورد عندما قال: «من الخطأ في جميع الحالات الإيمان في ظل عدم وجود أدلة كافية» يبدو مبالغًا فيه قليلًا. أعتقد أن النقاد لديهم وجهة نظر أو كان لديهم، ولكنهم تخلّوا عنها، ففي عالمٍ يمكن فيه مشاركة معتقدات الجميع فوريّا وبأقل تكلفةٍ ممكنة، ومع جمهور عالمي أيضًا، فإن كل معتقد لديه القدرة على أن يتدرج إلى ما تخيله كليفورد بالفعل.

 

إذا كنت لا تزال تعتقد أن ذلك ليس مبالغًا فيه، ففكر كيف أدت المعتقدات التي كُوّنت في كهف في أفغانستان إلى أعمال أنهت حياة الناس في نيويورك وباريس ولندن، أو فكر في مدى تأثير الأفكار التي تتدفق أمامك عبر منصات التواصل الاجتماعي في سلوكك اليومي الخاص. إن المعتقدات الفاسدة تحظى بشبكةٍ اجتماعيةٍ أوسع في القرية العالمية الافتراضية التي نسكنها اليوم، وبالتالي ربما كانت حُجة كليفورد على قدرٍ من الغلو عندما طرحها لأول مرة، لكنها لم تعُد كذلك اليوم.


ننتقل للحجة الثانية التي يقدمها كليفورد لدعم ادعائه الذي ينص على أنه من الخطأ دائمًا الإيمان في ظل عدم وجود أدلة كافية، وهي أن العادات السيئة لتكوين المعتقدات تجعلنا مؤمنين ومهملين وساذجين. ويقول كليفورد ببساطة: «لا يوجد اعتقاد حقيقي غير مهم، مهما بدا تافهًا ومجزئًا؛ فإنه يهيئنا لتلقي المزيد من أمثاله، ويؤكد ما كان على شاكلته من قبل، ويضعّف ما دونه؛ وهكذا تدريجيًا يصنع مسارًا خفيًا في أعماق أفكارنا، والذي قد ينفجر يومًا ما إلى عملٍ علني، ويترك بصمته على شخصيتنا». بالنظر إلى تحذير كليفورد في وقتنا الحالي، ما يريد إخبارنا به هو أن الإيمان الساذج يحولنا إلى فريسةٍ سهلةٍ لناشري الأخبار الكاذبة ومنظري المؤامرة والدجالين، والسماح لأنفسنا بأن نحمل هذه المعتقدات الخاطئة يُعد أمرًا خاطئًا أخلاقيًا؛ لأنه كما رأينا يمكن أن يكلف الخطأ دمارًا للمجتمع. وتُعد اليقظة المعرفية اليوم فضيلة نادرة أكثر بكثير مما كانت عليه في أي وقتٍ مضى، حيث زادت الحاجة إلى تدقيق المعلومات المتضاربة حاجةً كبيرة، فخطر تحولك إلى وعاءٍ من السذاجة ينشأ بمجرد بضع نقرات على الهاتف الذكي.


تدور حجة كليفورد الثالثة والأخيرة حول سبب كون الإيمان بدون دليل خاطئ أخلاقيًا ومفادها: أننا بصفتنا ناقلين للمعتقدات، فإننا نتحمل المسؤولية الأخلاقية بعدم تلويث بئر المعرفة الجماعي.
في زمن كليفورد، كانت الطريقة التي تُنسج بها معتقداتنا في «الوديعة الثمينة» للمعرفة العامة في المقام الأول من خلال الكلام والكتابة، وبسبب هذه القدرة على التواصل تصبح «كلماتنا وعباراتنا وأشكالنا وعملياتنا وأنماط تفكيرنا» ملكية مشتركة. إن تخريب هذا «الإرث» -كما وصفه- بإضافة معتقدات فاسدة أمر غير أخلاقي لأن حياة الجميع تعتمد في النهاية على هذا المورد الحيوي المشترك.


وعلى الرغم من أن حجة كليفورد النهائية صحيحة، إلا أنه يبدو من المبالغة الادعاء بأن كل معتقد خاطئ صغير نعتنقه يُعد بالضرورة إهانة أخلاقية للمعرفة المشتركة، ومع ذلك فإن الواقع ومرة أخرى يتطابق مع كليفورد وكلماته التنبؤية، فلدينا اليوم خزان عالمي للمعتقدات يُضاف فيه جميع قناعاتنا بعناية فائقة يدعى البيانات الضخمة (Big Data).


إنك لا تحتاج حتى إلى أن تكون مستخدمًا نشطًا للإنترنت يغرد على تويتر أو ينشر على فيسبوك، فالمزيد مما نفعله في العالم الحقيقي يُسجل ويُحول إلى أرقام، ومن هنا يمكن للخوارزميات الاستنتاج بسهولة بما نؤمن به قبل التعبير عن وجهة نظرنا، كما تستخدم الخوارزميات هذه المجموعة الهائلة من المعتقدات المخزنة لاتخاذ القرارات من أجلنا، وهي نفس قاعدة البيانات التي تستفيد منها محركات البحث عند بحثنا عن إجاباتٍ لأسئلتنا ونكتسب معتقدات جديدة. فقط أضف العناصر الخاطئة إلى قاعدة البيانات الضخمة (Big Data) وما ستحصل عليه هو ناتج يُحتمل أن يكون خاطئًا.
في النهاية، إذا كان هناك وقت يكون فيه التفكير النقدي حتمية أخلاقية، والسذاجة خطيئةٌ كارثية أكثر من أي وقتٍ آخر، فهو الوقتُ الحالي.

المصدر

موضح في المقال أن الموقع يُسمح بإعادة استخدام المحتوى ونشره 

أحدث المقالات
أحدث التعليقات
الأرشيف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *