مسألة إعمال العقل
ترجمة: Manal Faisal AL-Arjan يحتل المذهب المادي هذه الأيام النصاب الأعلى في النقاشات المتعلقة في نهاية المطاف بالتساؤلات العلمية , وهي طبيعة الوعي . فعند معالجة مشكلة العقل والدماغ, نجد أن العديد من الباحثين البارزين يدعون الى وجود كون مختزل تماما للمادة. ويصرحون قائلين : ( بالطبع أنت لا تساوي شيئا بدون نشاط خلاياك العصبية […]
ترجمة: Manal Faisal AL-Arjan
يحتل المذهب المادي هذه الأيام النصاب الأعلى في النقاشات المتعلقة في نهاية المطاف بالتساؤلات العلمية , وهي طبيعة الوعي . فعند معالجة مشكلة العقل والدماغ, نجد أن العديد من الباحثين البارزين يدعون الى وجود كون مختزل تماما للمادة. ويصرحون قائلين : ( بالطبع أنت لا تساوي شيئا بدون نشاط خلاياك العصبية ). وفي ضوء تقدم علم الأعصاب , فإن هذا الموقف يبدو معقولا وواقعيا ، مع صورة رائعة للعقول المضيئة وكأنها شجرة الميلاد ، بينما الأشخاص الذين تجرى عليهم التجربة يأكلون التفاح أو يشاهدون الأفلام أو يحلمون . أليست القوانين المادية الأساسية معروفة بالفعل ؟
من هذا المكان المناسب لأفضل الآراء العملية والواقعية , يبدو أن مشكلة الوعي هي مجرد إحدى المشاكل الشائكة، كما ناقش الفيزيائي الأمريكي ميشيو كاكو ذلك في “مستقبل العقل” (2014). وفي الرواية الشهيرة عن النقاش حول الوعي ، فإن أولئك الذين يدعون أن فهم العقل يتطلب شيئا آخر غير الذي قيل بأن ( لا شيء سوى المادة ), بالعادة ينظر لهم على أنهم ضحايا للتفكير الحالم أو غير منطقيين، أو حتى أسوأ من ذلك ، الانضمام للصوفيين “وو”.
من الصعب عدم الشعور بسرعة البديهة الموجودة في رجاحة عقل الغيبين اليوم . مثل بيكيت المسئول عن التل في ” غيتسبرغ” – جدال تاريخي – ، الذي يريد أن يتجادل مع من يفوقونه منصبا من المسلحين بأدمغتهم وبرنين مغناطيسي عالي الدقة وغيرها من مواد فنية مناسبة لموقفهم ! ومع ذلك ، هناك نقطة ضعف كبيرة تختبئ خلف هيبة مظهر الحاجز المادي . إنها بسيطة بقدر ما لا يمكن إنكاره: فبعد أكثر من قرن من الاستكشافات العميقة في العالم الذري، لاتزال نظريتنا الأفضل عن ( كيف يتصرف العقل ) تحكي لنا القليل جدا عن ( ماهية العقل ). استغاث الماديون بالفيزياء لشرح العقل , ولكن حتى في الفيزياء الحديثة فان الجسيمات التي تشكل العقل لاتزال غامضة بحد ذاتها .
عندما كنت طالب فيزياء شاب, سألت الأستاذ احدى المرات : ” ما هو الالكترون ؟” وفاجأتني إجابته حيث قال ” الالكترون هو كل ما يتبع خصائص الالكترون “. وكانت هذه الإجابة المستديرة الغامضة هي طريقي الطويل من الحلم الذي دفعني الى علم الطبيعة ( الفيزياء ) ، حلم النظريات التي تصف الواقع بإتقان. وتقريبا كأي طالب على مر ال100 سنة الماضية ، فقد صدمت من علم الميكانيكا الكمية وفيزياء المجهريات . وبدلا من رؤية واضحة للقليل من المسائل التي تشرح كل الأشياء الكبيرة من حولنا ، فإن الفيزياء الكمية تعطينا حساب التفاضل والتكامل الجبار ولكنه يبدو متناقضاً. ومع تركيزها على موجات الاحتمال, فإن المشككين الأساسين والخبراء القلقين يسعون إلى القياس ؛ جعل علم الميكانيكا تخيل الأشياء كأنها مادة بلاستيكية مفتتة ( أو كرات بلياردو مصغرة ) ولكن كل ذلك مستحيل .
وكأغلب الفيزيائيين ،تعلمت كيفية تجاهل غرابة الفيزياء الكمية. إن مقولة ” اصمت واحسب ” (المقولة المأثورة للفيزيائي الأمريكي دايفيد ميرمن ) تعمل معك بشكل رائع إذا كنت تريد الحصول على نسبة كاملة في واجب نظرية الكم المتقدمة أو عند الاعتماد على الليزر. ولكن تكمن خلف الدقة الحسابية التي لا مثيل لها في علم الميكانيكا الكمي أسئلة عميقة مستعصية وثابتة حول ما الذي تعنيه القواعد الكمية بشأن طبيعة الواقع –بما في ذلك مكاننا فيه.
إن هذه الأسئلة معروفة جيدا في مجتمع الفيزيائيين , ولكن ربما عادتنا في الصمت نوعا ما كانت ناجحة جدا. قرن من اللادراية حول الطبيعة الحقيقة لهذه المسألة التي لم يتم العثور على طريقها بعمق كافي في المجالات الأخرى. حيث لا تزال تبدو المادية هي الطريقة الأكثر منطقية للتعامل مع العالم، والأهم من ذلك كله، مع العقل. يعتقد بعض علماء الأعصاب أنهم أصبحوا على وجه الدقة وذلك من خلال تمسكهم بإحكام بوثائق الماديين. إن علماء الأحياء الجزئية، علماء الوراثة، وغيرهم العديد من الباحثين في مختلف المجالات – فضلا عن شعب علماء الأعصاب – توصلوا بشكل متشابه إلى استخلاص أن المادية تبدو قطعية. ولكن هذا الاستنتاج (الاقتناع) هو خارج نطاق ما نعرفه نحن الفيزيائيين عن العالم المادي أو بالأحرى – مالا نعرفه.
قدم ألبرت أينشتاين وماكس بلانك فكرة الكم في بداية القرن العشرين، مجتاحين (ماحين) النظرة الكلاسيكية القديمة للواقع. ولم نتمكن أبدا من التوصل لحقيقة جديدة نهائية لتحل محلها. ولايزال تفسير علماء الفيزياء الكمية هو السائد كأي وقت مضى. وكوصف دقيق للخلايا الشمية والدوائر الرقمية, فهذا دليل على أن علم الميكانيكا يعمل على ما يرام. ولكن إذا أراد المرء أن يطبق الحالة المادية لمفهوم ما خفي وعميق – كالوعي، فإنه ينبغي له التساؤل عن شيء أكثر وضوحا. وكلما نظرتم بشكل أقرب, كلما بدأ يتضح لكم أن موقف الماديين (أو الفيزيائيين) ليس الملاذ الآمن للعديد ممن يرغبون برجاحة عقل الغيبين.
أما بالنسبة للفيزيائيين، فإن الغموض حول المادة يتناقص إلى ما نسميه مشكلة القياس، وعلاقته بكيان معروف باسم وظيفة الموجة. وبالعودة إلى الأيام الخوالي لفيزياء نيوتن، فإن سلوك الجسيمات تم تحديده بواسطة قانون رياضي حيث ق = ك ع (القوى= الكتلة * التسارع). أنت توجه قوة ما على كتلة جسم فيتسارع لينتقل. لقد كان من السهل لك أن تتخيله في راسك. الجسيم؟ التأكد؟ القوة؟ التأكد؟ التسارع؟ نعم. أنت جاهز للذهاب.
إن المعادلة ق= ك ع تعطيك أمرين , وهي الأكثر أهمية بالنسبة لتصور نيوتن عن العالم: موقع الجسيم وسرعته. وهذا ما يسميه الفيزيائيين بحالة الجسيم. يعطيك قانون نيوتن حالة الجسيم في أي زمن وبالدقة التي تحتاجها. إذا وُصفت حالة كل جسيم بواسطة هذه المعادلة البسيطة، وكانت الأنظمة الكبيرة مجرد مجموعات كبيرة من الجسيمات، إذاً فالعالم كله ينبغي عليه التصرف بطريقة يمكن التنبؤ بها. لا يزال العديد من الماديين متمسكين بتلك النظرة الكلاسيكية القديمة. ولهذا السبب لا تزال الفيزياء تعتبر على نطاق واسع مصدر نهائي للإجابات على الأسئلة حول العالم، سواء كانت داخل أو خارج رؤوسنا.
في فيزيائية إسحاق نيوتن، تم حقا تعريف السرعة والموقع وتصوير خصائص الجسيم بشكل واضح. إن قياسات حالة الجسيم لا تغير شيئا في القاعدة. لقد كانت المعادلة ق=ك ع صحيحة , سواء كنت تبحث في الجسيمات أم لا. وكل ذلك انهار عندما بدأ العلماء بالفحص والتحقيق في نطاق الذرات في أوائل القرن الماضي. وأثناء موجة من الإبداع، وضع الفيزيائيون مجموعة جديدة من القواعد عُرفت بعلم الميكانيكا. وقد تم تجسيد نموذج حاسم من الفيزياء الجديدة في معادلة شرودنجر. مثل قانون نيوتن، فإن معادلة شرودنجر تمثل الآلات الرياضية لتطبيق الفيزياء؛ فهي تصف كيف تتغير حالة الجسيم. ولكن مراعاةً لكل الظواهر الجديدة التي أوجدها الفيزيائيون (التي لا يعرف نيوتن شيئا عنها)، كان على الفيزيائي النمساوي إروين شرودنجر أن يصوغ معادلة ذات نوع مختلف جدا.
عندما تتم الحسابات طبقا لمعادلة شرودنجر, فإننا لا نحصل على قانون نيوتن للكتلة الصحيحة والتسارع. وبدلا من ذلك, فإنك تحصل على ما يسمى بالدالة الموجية ( يشير إليها الفيزيائيون بـpsi أي ؛ نظام صغري مثل حجم الذرة, بعد استخدام الرمز اليوناني Ψ للدلالة عليها ). وبخلاف قانون نيوتن الذي يمكن تصوره بوضوح بطريقة منطقية، فإن الدالة الموجية هي فوضى وجودية ومعرفية؛ فهي لا تعطي قياسات دقيقة لموقع الجسيم وسرعته، بل توفر لك الاحتمالات على الصعيد الأساسي للواقع. يبدو أن الدالة الموجية psi تخبرك بأن الجسيم يمتلك حالات وسرعات متعددة في أي لحظة . وفي الواقع ، من وجهة نظر نيوتن الفيزيائية ,فإن أجزاء المادة تتجزأ وتتذبذب إلى مجموعة من الطاقات والإمكانيات.
كيف يمكن أن هناك قانون واحد ما للعالم الملموس قبل صنع المقاييس وآخر مختلف عنه بعد وضعها ؟
إنها ليست مجرد الكتلة والسرعة التي تتجزأ لجزيئات . فالدالة الموجية تعامل كل خصائص الجسيمات ( الجسيم = الذرة ) بالطريقة نفسها , كالشحنة الكهربائية والطاقة والدوران وغيرها. وبالتالي, تصبح كلها احتمالات تحمل العديد من القيم الممكنة في نفس الوقت. وإذا أخذناها بالقيمة الإسمية, فإنه يبدو كما لو أن الجسيم لا يملك أي خصائص محددة إطلاقا. وهذا ما قصده الفيزيائي الألماني ويرنر هيسنبرغ أحد مؤسسي علم الميكانيكيا الكمية، عندما نصح الناس بعدم التفكير بالذرات على أنها ” أشياء أو مخلوقات “. وعلى هذا المستوى الأساسي، فإن المنظور الكمي يضيف الكثير من الضبابية حول أي اعتقادات مادية لمعرفة مما يتكون ومما بني الكون.
وما زالت الأمور تزداد غرابة . وفقا للطريقة القياسية لمعاملة حساب التفاضل والتكامل الكمي, فإن قانون قياس الكتلة على الجسيم يقضي على كل أجزاء الدالة الموجية ماعدا ذلك الذي تسجله أجهزتك. ويقال أن الدالة الموجية تنهار حالما تتلاشى كل الحالات أو السرعات المتجزأة المرتقبة بحسب قانون قياس الكتلة. إنها مثل معادلة شرودنجر التي تعمل بشكل رائع في وصف الجسيمات المتذبذبة المتجزأة قبل صنع القياسات ،تم رفضها فجاءة ولم تعد صالحة للتطبيق بعد صنعها.
ويمكنك أن ترى كيف يمكن تحويل هذه العقبة إلى وجهة نظر بسيطة- تستند على الفيزياء – في العالم المادي الملموس. كيف يمكن أن هناك قانون رياضي واحد للكون الخارجي الملموس قبل صنع القياس وآخر مختلف قفز فيه بعد أن ظهر القياس؟ منذ مئات السنين, والفلاسفة والفيزيائيين يتنافسون في محاولاتهم لمعرفة تفسير الدالة الموجية وكيفية ارتباطها بمشكلة القياسات . ما الذي يخبرنا به علم الميكانيكا الكمية بالضبط عن الكون ؟ و ما الذي تمثله الدالة الموجية ؟ وماذا يحدث حقا عند ظهور القياسات ؟ وقبل كل ذلك، ماهي المادة؟
لا توجد اليوم أي إجابات قطعية على هذه الأسئلة. ولا حتى أي اجماع حول ما ينبغي أن تبدو عليه الإجابات. بدلا من ذلك ، هناك تفسيرات متعددة للنظرية الكمية ، كل منها يتوافق بطريقة مختلفة جدا فيما يتعلق بالمادة ومما تتكون وكل شيء مصنوع منها – والذي هو بالطبع يعني كل شيء. التفسير الأقرب لاكتساب القوة ،هو تفسير كوبنهاغن ،المقترن بالفيزيائي الدنماركي نيلز بور وبعض مؤسسي النظرية الكمية . وحسب رأيهم ، فانه من غير الجدوى التحدث عن خصائص الذرات بحد ذاتها. كان علم الميكانيكا الكمية هو النظرية التي تحدثت فقط إلى ادراكنا الكوني . وقد سلطت الضوء مشاكل نظام القياس المرتبطة بمعادلة شوردنجر على هذا الحاجز بين نظرية المعرفة وعلم الوجود من خلال توضيح دور المشاهد (أي نحن ) في اكتساب المعرفة .
ومع ذلك، لم يكن جميع الباحثين على استعداد للتخلي عن هدف الوصول التجريدي المحسوس إلى كون تجريدي تماما! فقد علق البعض آمالهم على اكتشاف المتغيرات الخفية – مجموعة من القوانين القطعية الكامنة تحت الميكانيكا الكمية. والبعض الآخر اتخذوا رأي متطرف. وفي نظرية تعدد الأكوان التي تبناها الفيزيائي الأمريكي هيو إيفرت، فقد اُعتبرت قوة الدالة الموجية وتحكمها بمعادلة شرودنجر على أنها مجردة. إن نظام القياسات لم يعطل المعادلة أو يسقط الدالة الموجية, بل جعل الكون ينقسم إلى نسخ عديدة ( وربما لا نهائية ) مماثلة وموازية له . وهكذا ، فإن كل عالم تجريبي ممن يقيس الالكترون الموجود هنا في هذا الكون, يجد الكترون هناك في النسخة الموازية التي تم إنشائها. إن نظرية تعدد الأكوان ينحاز لها العديد من الماديين, ولكنها تكلف ثمنا باهضا.
وهنا النقطة الأكثر أهمية : حتى الآن لا يوجد أي طريقة للتمييز على نحو تجريبي بين هذه النظريات المختلفة التفسيرات بشكل واسع النطاق. أي مما تختاره في الأساس هو مسألة مزاج فلسفي. وكما يضعها الباحث النظري الأمريكي كريستوفر فوتش , من جانب واحد يوجد هناك علماء النفس الوجودين الذين يريدون من الدالة الموجية أن تصف الكون التجريدي “خارجا “. وعلى الجانب الآخر علماء النفس المعرفيين الذين يرون أن الدالة الموجية ماهي إلا وصف لمعارفنا وحدودها . حتى الآن, لا يوجد تقريبا أي طريقة لتسوية الخلاف علميا ( رغم أنه يبدو أن الصيغة القياسية للمتغيرات الخفية قد استُبعدت ).
إن هذه الاعتباطية بخصوص تحديد أي النظريات التي يجب علينا التمسك بها تماما يضعف موقف الماديين المتشدد. والسؤال هنا ليس إذا كان اختيار بعض الماديين المشهورين لنظرية تعدد الأكوان هو الصحيح ، بل عن ما إذا كانت سخافة فيزياء التاو و بوذيتها الكمية هي صحيحة . والمشكلة الحقيقية هي أنه في كل مسألة يكون للمؤيدين حرية انتقاء نظرية واحدة من بين الأخريات لأن .. حسنا .. لأنها تعجبهم . الجميع،من جميع الأطراف، هم في نفس الموقف . لا يمكن أن يكون هناك أي مطالبة بالإقناع الجبري حول ” ما الذي تقوله الميكانيكا الكمية ” وذلك لأن الميكانيكا الكمية لا تقول الكثير فيما يتعلق بتفسيراتها الخاصة بها.
يبدو أن إعادة وضع موضوع الإدراك مرة أخرى في داخل سياق الفيزياء هو تقويض لمنظور الماديين كله .
كل تفسير يخص علم الميكانيكا الكمية له ميزاته العلمية والفلسفية, ولكن كلٌ منهم جميعا له قيمته . بطريقة ما أو بأخرى ، فإنهم يجبرون المؤيدين لأخذ خطوة عملاقة بعيدة عن هذا النوع من ” الواقعية البسيطة” ، الرؤية المتمثلة في الأجزاء الصغيرة من المسألة الحتمية – والتي كانت ممكنة من وجهة نظر نيوتن الفلسفية ؛ التحول لفكرة ” المجالات ” الكمية لايحل المشكلة . وقد كان من السهل الاعتقاد بأن الموضوعات الرياضية المرتبطة بقوانين نيوتن كانت تشير بطريقة بديهية نوعا ما إلى الأشياء الحقيقة في الخارج . ولكن يجب على أولئك المنتسبين إلى العلم الوجودي النفسي – الملقبون أحيانا بـ واقعيوا الدالة الموجية – أن يجتازوا متاهة من التحديات للتمسك بوجهات نظرهم أو آرائهم. وتصف المقالة دالة الموجة(2013م) ، التي حررها الفيلسوفان اليسا ناي و ديفيد زي البرت ، العديد من هذه الخيارات التي قد تصبح غريبة قليلا . ومن خلال قراءة التحليلات المكثفة ,سرعان ما يتبدد أي أمل في أن المادية تقدم نقطة مرجعية بسيطة و ملموسة لمشكلة الوعي والإدراك.
وعلى سبيل المثال, فإن جاذبية نظرية تعدد الأكوان تكمن في قدرتها على المحافظة على الفعلية ( الواقع ) في الفيزياء الرياضية. وفي هذا المنظور, نعم, إن دالة الموجة واقعية ، ونعم , إنها تصف عالم من المسائل التي تتبع القوانين الرياضية بغض النظر عما إذا كان هناك من يشاهد ذلك أم لا. والثمن الذي تدفعه لهذا الرأي هو عدد لا حصر له من الأكوان المتوازية التي تنقسم بلا حدود إلى مالا نهاية من الأكوان والتي بدورها تنقسم إلى.. حسنا ، يمكنك تخيل الصورة. وهناك أيضا ثمن كبير يتعين دفعه لآراء علماء النفس الوجوديين. ومن هذا المنظور, لم تعد الفيزياء مجرد وصف للكون بحد ذاته. بل بدلا من ذلك , هي وصف للقوانين المتعلقة بتفاعلنا مع العالم . وكما يقول الباحث النظري الأمريكي جوزيف ” إنها ليست الدالة الموجية للالكترون ، انها دالتك الموجية .”
بشكل خاص, فالتحول القوي لرأي علماء النفس الوجوديين الذي يُعرَف ب” البايزية “, يرفع هذا المنظور الى مستوى أعلى من الدقة , من خلال أخذ الاحتمالات في علم الميكانيكا الكمية على القيمة الإسمية . ووفقا لنظرية فوتش ، المؤيد الرئيسي للنظرية الكمية البايزية ، فإن الاحتمالات في علم الميكانيكا الكمية الغير قابلة للاختزال تخبرنا بأنها حقا نظرية عن المراهنة على السلوك العالمي ( بواسطة قياساتنا ),ومن ثم تتطور معرفتنا بعد أن تتم تلك القياسات . وبهذه الطريقة, فإن النظرية البازية تشير بوضوح الى إخفاقنا في إدراج موضوع الملاحظة و المتعلق بشكل جذري بغرابة أو حداثة الكمية. وكما كتبت ميرمين في مجلة الطبيعة : ” تعزو البازية وجود التشوش الذهني أو الفوضى في أسس علم الميكانيكا الكمية الى إخراجنا الغير ملحوظ للعالم من العلم ”
يبدو أن إعادة موضوع الإدراك مرة أخرى إلى سياق الفيزياء هو تقويض لمنظور الماديين كله. لا يمكن أن تسفر نظرية العقل التي تعتمد على المادة التي تعتمد على العقل عن الأرض الصلبة التي يتوق لها الكثير من الماديين.
ومن السهل أن نرى كيف وصلنا الى هنا. إن المادية هي فلسفة جذابة- على الأقل , كانت كذلك قبل أن يغير علم الميكانيكا الكمية تفكيرنا بشأن المادة . ” أنا أدحض ذلك إذاً ” هذا ما قاله صمويل جونسون – كاتب في القرن ال18– راميا صخرة كبيرة كدحض للمجادلات التي كان قد عانى منها كثيرا ضد المادية. وقد كانت ركلته تلك هي جوهر رؤية الماديين الواقعية للعالم(ولكنها مكسورة القدمين ). وهي تقدم لنا حساب دقيق حول من ماذا يتكون الكون: قطع من الأشياء إسمها المادة. وبما أن المادة لها خصائص مستقلة وخارجية عن أي شي يعنينا أو نهتم به، يمكننا استخدام هذه الأشياء لبناء سرد موضوعي تماما لعالم موضوعي تماما. يبدو أن رؤية الكرة والعصا للواقع هي مصدر إلهام كبير لثقة جمهور المادية حول حل لغز غموض سر العقل البشري.
ولكن اليوم، من الصعب التوفيق بين تلك الثقة والتفسيرات المتعددة للميكانيكا الكمية. قد تكون الميكانيكا النيوتونية جيدة لشرح نشاط الدماغ. ويمكنها التعامل مع أشياء مثل تدفق الدم من خلال الشعيرات الدموية وانتشار المواد الكيميائية عبر نقاط الاشتباك العصبي، ولكن أرض النظرية المادية تصبح هشة كثيرا عندما نحاول التعامل مع سر أكثر عمقا للعقل، وهذا يعني غرابة كونه موضوع يواجَه كثيرا . في هذا النطاق، لا يوجد تجنُّب للتعقيدات العلمية والفلسفية التي تأتي مع الميكانيكا الكمية.
أولا، الاختلافات بين مواقف علماء النفس الوجودي و علماء النفس المعرفي هي أساسية بحيث أنه لايُعرَف أي واحد منهما هو الصحيح، إنه من المستحيل أن نعرف ما الذي تشير إليه الميكانيكا الكمية في جوهرها. تخيل للحظة أن شيئا مثل تفسير النظرية البيازية الكمية للميكانيكا الكمية كان صحيحا. إذا كان هذا التركيز على موضوع الملاحظة هو الدرس الصحيح للتعلم من الفيزياء الكمية، فإن الوصول المثالي والمتجرد إلى العالم الذي يقع في قلب المادية سوف يفقد الكثير من الاتجاهات . لكن الطريقة أخرى: إذا كانت نظرية البيازية الكمية أو غيرها من وجهات النظر مثل كوبنهاغن صحيحة، يمكن أن تكون هناك مفاجآت هائلة تنتظرنا في استكشافنا للموضوع والهدف، وهذه يجب أن تدرج في أي اعتبار للعقل. ومن ناحية أخرى، فإن المدرسة المادية القديمة – كونها شكلا معينا من أشكال علم االنفس الوجودي – ستعمى بالضرورة عن هذه الأنواع من الإضافات.
النقطة الثانية ذات الصلة, هي أنه في غياب الأدلة التجريبية فإن ذلك يتركنا مع ديمقراطية من الاحتمالات لا يمكن اختزالها. وفي اجتماع نظرية الكم عام 2011م ، أجرى ثلاثة باحثين مثل هذا الاستطلاع فقط، سائلين المشاركين: “ما هو تفسيركم المفضل لميكانيكا الكم؟” (حصلت ستة نماذج مختلفة على الأصوات، إلى جانب بعض الاختيارات لـ “أخرى” و “بدون اختيار”. ) وكما قد يكون هذا التمرين مفيدا لقياس ميل الباحثين، وإجراء الاستفتاء الذي ينبغي أن يصبح “رسمي” في الاجتماع التالي للجمعية الفيزيائية الأمريكية (أو الجمعية الفلسفية الأمريكية), فلن يجعلنا نقترب من الحصول على أي من الإجابات التي نسعى لها. ولن نسير الهوينا على أقدامنا، عاملين تصريحات أو بيانات صاخبة ، أو مسقطين أسماء عملائنا الفيزيائيين المرجح حصولهم على جائزة نوبل .
وبدلا من محاولة إغفال سر العقل عن طريق إسناده إلى ميكانيكيات المادة، يجب علينا أن نتعامل مع الطبيعة المتشابكة للاثنين .
وفي ضوء هذه الصعوبات، يجب أن يتساءل المرء عن سبب تفضيل بعض البدائل الغريبة التي اقترحتها التفسيرات الكمية على نطاق واسع على الآخرين عن البدائل الأخرى داخل مجتمع البحث. لماذا ترتبط الكمية اللامتناهية من العوالم المتوازية في تفسير العديد من العوالم بالموقف الواقعي والمتزن ، في حين أن تضمين موضوع الإدراك يدان كأنه عبور إلى شواطئ مكافحة العلم في أحسن الأحوال، أو التصوف في أسوأ الأحوال؟
إنه بمعنى أن تمهد أعمال الميكانيكات الكمية غير المكتملة أرضية الملعب. إن موقف المادية القوي يتضاءل عندما تُتَّـبع إلى جذورها الميكانيكية الكمية، لأنها تتطلب بعد ذلك قبول الإمكانيات الميتافيزيقية التي تبدو أكثر ” منطقية” من البدائل الأخرى. قد يعتقد بعض الباحثين الواعين أنهم ماديين وواقعيين عندما يدعون إلى سُلطَة الفيزياء. عند التقدم بسرعة في هذه المسألة، على الرغم من أننا كفيزيائيين غالبا نُترك للنظر إلى خطوات سيرنا ، مبتسمين بشكل خجول ومتمتمين بـ : ‘ إنه أمر معقد’. ونحن نعلم أن المسألة لا تزال غامضة تماما مثلما لا يزال العقل غامضا، ونحن لا نعرف كيف ينبغي أن تكون الارتباطات بين تلك الأسرار. تصنيف الوعي كمشكلة مادية هو بمثابة القول بأن الوعي، أيضا، لا يزال غير مفسر بشكل أساسي.
بدلا من إغفال سر العقل من خلال نسبه إلى ميكانيكيات المادة، يمكننا أن نبدأ في التقدم إلى الأمام من خلال الاعتراف أين تمضي بنا التفسيرات المتعددة للميكانيكية الكمية. لقد مضى أكثر من 20 عاما على عرض الفيلسوف الأسترالي ديفيد تشالمرز فكرة “مشكلة الوعي والإدراك الصعبة “. في العمل التالي للفيلسوف الأمريكي توماس ناجيل، أشار تشالمرز إلى القوة – الوجود الحقيقي – لفهم موضوع التجربة كمشكلة لايبدو أن هناك اعتبار تفسيري للوعي قادر على شمولها. لامس موقف تشالمرز الوتر الحساس للعديد من الفلاسفة، معبرا عن الإحساس بأن هناك في الأساس شيء يحدث في الوعي أكثر من مجرد الإحصاء والحساب بالقلب والعقل. ولكن ما هي تلك “الإضافة”؟
يرى بعض باحثي الوعي والإدراك المشكلة الصعبة كمشكلة مادية ولكن غير قابلة للحل بطبيعتها. والبعض الآخر يضع مجموعة من الخيارات لاعتبارها. وتشمل تلك الحلول الامكانات التي تجسد العقل إلى مادة . على سبيل المثال , قد يكون الوعي مثلا على ظهور كيان جديد في الكون غيرُ متضمنٍ في قوانين الجسيمات. وهناك أيضا احتمالٌ هو أكثرُ جوهرية , أن بعض أشكال الوعي البدائية يجب أن تضاف إلى قائمة الأشياء التي بني بها العالم ، مثل الكتلة أو الشحن الكهربائي. وبصرف النظر عن الاتجاه الذي قد تأخذه ” الإضافة ” فإن ديموقراطية التفسيرات الكمية التي لم تحل بَعْد تعني أن فهمنا الحالي للمسألة وحدها ليس من المرجح أن يفسر طبيعة العقل. ويبدو مثلما هو مرجح بأن حال المسألة سيكون هو النقيض والعكس .
في حين أن الماديين قد يستمرون بالرغبة في موقف المنتصر لرجاحة العقل والواقعية ، يجب أن نتذكر تحذير الشاعر الأمريكي ريتشارد ويلبر:
اركل الصخرة، سام جونسون، واكسر عظامك:
غامض ببساطة ، غامض هو ركام الحجارة.
أحدث التعليقات