حياتك.. أنت

تدقيق: عبير حماد
يعلمنا الفلاسفة الوجوديون أننا وحدنا المسؤولون عن خلق حياة ذات معنى في عالم عبثي ومجحف.
إذا وقفت على حافة جُرف، فسيغشاك شعور بالاضطراب والارتباك، لا تخاف من السقوط وحسب، بل تخاف أن تذعن للرغبة في إلقاء نفسك نحو الهاوية، لا شيء يعيقك، يعتريك الخوف والهلع والغم.
يصف الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيجارد هذه الحالة بـ “القلق الوجودي” لأنك في هذا المقام، على حرف الهاوية، تختبر حريتك المحضة مباشرة.
يمكنك أن تفعل ما يحلو لك، أن تتقدم نحو الهاوية، أو أن تبقى مكانك، يعود الأمر إليك. الوعي بمطلق حريتك أمام تقرير سياق حياتك أن تقفز أو لا تفقز- مدوّخ كدوار. ويستطرد كيركيجارد مشيرًا إلى أننا نواجه الهلع نفسه في كل خيارات حياتنا. كل خطوة نتخذها تمثل خيارًا نتخذه بأنفسنا.
حجة كيركيجارد التي تقول بأن الحياة سلسلة من الخيارات وأن تلك الخيارات تهب (أو لا تهب) لحياتنا معنى- هي حجر أساس الوجودية. عوضًا عن تحميل المسؤولية للمجتمع أو الديانة، فوحده الفرد يحمل مسؤولية منح المعنى لحياته وعيشها بأصالة.
كان موضوع الأصالة مفضلا لدى الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر إذ يقول: لماذا تبدو مشاريعنا اليومية ممحوقة المعنى عندما يواجهنا الموت؟ يموت صديق أو قريب، ويدفعنا ذلك نحو منحى جديد، نستقيل من الوظيفة ونتوقف بدورنا عن حمل هم الأعباء اليومية، ويتحول اهتمامنا نحو جوانب كنا قد تجاهلناها فيما سبق.
يشير هيدجر في كتابه ”الوجود والزمن” إلى أن المعنى من وجودنا يجب أن يرتبط بالزمن، نحن كائنات بائدة، مولودون في عالم تواجد قبلنا بديانته وحضارته، جزء من تاريخ مكتوب مسبقًا، ولنفهم هذا العالم ننخرط في العديد من الملهيات لنتدبر أمورنا.
قد نحظى بعائلة أو نبني منزلًا أو حياة وظيفية، فبهذا نضع أنفسنا في تيار نحو نوع من المستقبل، لكن لمشارعينا حد، نقطة ينتهي عندها كل شيء، أتممناها أم لم نتممها على حد سواء، وهذا الحد هو موتنا. وهذا ما أسماه هيدجر “السير نحو الموت” أو “الوجود لأجل الموت”.
لكننا منهمكون في اللهو والملهيات حتى أننا ننسى ببساطة أن هناك حد أقصى لمسعانا، وبهذا فإننا نعيش حياة غير أصيلة. ولن نجد تلك الحياة الأصيلة حتى نعرضها على أفق موتنا.
الأصالة والإعلام
يجادل كيركيجارد بأن نشرات الأخبار تمنع الناس عن العيش بأصالة، أنها هيئة متطفلة، تصدنا عن التجارب الحقيقية.
الثقافة الجماهيرية تولد خسارة في الفحوى الفردي، والذي يطلق عليه مسمى “التسوية”.ووفقًا لكيركيجارد:عوضًا عن الانخراط في أفكارنا الأصيلة بتشكيل آراءنا الخاصة، يتبنى معظمنا -بشكل لافاعل- الآراء التي تبنيها له الأخبار.
الواقع يكمن في القيام بالفعل
يخبرنا الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول ستارتر أننا وحيدون، سائبون على الأرض في خضم مسؤوليات أبدية. لا نملك هدفًا غير الذي ننصبه لأنفسنا، ولا قدرًا غير الذي نصنعه لأنفسنا، إلا أن العديد منا يظل منكرًا لمسؤولياته.
نقع في معتقدات خاطئة، نخدع أنفسنا حول تلك الحرية الراديكالية. في كتابه “الوجودية مذهب إنساني” نجد سارتر صريحًا وقاسيًا إذ يقول: “عقيدتنا تُرهب الناس، لا يملكون طريقة أخرى لتقبل تعاستهم غير التفكير بهذه الطريقة: كانت الظروف ضدي، أستحق حياة أفضل بكثير من التي أعيشها. أعترف أنني لم أعش حبًّا عظيمًا أو صداقة استثنائية قط؛ لكن هذا يرجع لأني لم أقابل قط رجلا أو امرأة يستحقان ذلك. إن لم أكتب كتبًا عظيمةً فهذا لأن الوقت لم يتسنى لذلك. إن لم أنجب أطفالا لأهبهم نفسي فذلك لأنني لم أجد رجلا أستطيع مشاركته حياتي. في داخلي بقجة من المسوغات والنوايا والاحتمالات غير المجربة؛ لكنها صالحة تماما، تمرغني في الجدارة التي لا تُرى بفحص أي من أفعالي السابقة.”
“بالنسبة للوجوديين، لا حب سوى صنائع الحب، ولا عبقرية سوى تلك المتجلية عبر الفن، عبقرية بروست تكمن في شمولية أعماله، عبقرية راسين تكمن في سلسلة تراجيدياته، ولا يوجد شيء خارج ذلك النطاق.
لا شك أن هذه الفكرة قد تبدو قاسية بالنسبة إلى شخص لم يحقق نجاحًا في حياته، لكنه من الناحية الأخرى يحث الآخرين على استيعاب أن الواقع وحده المحسوب، وأن الأحلام والتوقعات والآمال إنما تُعرّف عن الشخص كحلم مشطور، وآمال مجهضة، وتوقعات خاوية، بصيغة أخرى: يُعرّفونه بصيغة سلبية لا إيجابية.”
وفقًا لسارتر، ما نحن إلا مجموع أفعالنا.
المبدأ الأول للوجودية، هو أن الوجود يسبق الجدوى، أي على عكس مؤقت الوقت لطهي البيض، الذي صنع لطهي البيض، البشر لا يُبرمجون بمقصد محدد. وفقط عبر أفعالنا سنحدد لاحقا ما ستكون غايتنا من الحياة. ويقول: “الإنسان عدم دون مشروعه الخاص”.
ومع ذلك -كالجمادات- يخدع البشر أنفسهم ليصدقوا أن القدر هو السلطة الوحيدة على ماهيتهم. ملقين بمسؤولية تصرفاتهم على الآخرين أو على شريعة أخلاقية. وفقًا لسارتر الواقع يكمن في الأفعال فقط. نقترف أنفسنا على هذه الحياة، ونرسم صورتنا لأنفسنا، ولا يكمن خارج ذلك سوى العدم.
تلاعب الرغبة
القول بأننا نملك حرية مطلقة لملاحقة المعنى وراء حيواتنا، يقتضي بعدم وجود معيقات، ولكن الأمر لا يكون كذلك دائمًا.
في ”أخلاقيات الغموض”، تشير المؤلفة والفيلسوفة الوجودية سيمون دي بوفوار إلى أننا لا نحمل أي مسؤولية في طفولتنا، نعيش في عالم مهيّأ بقيم مُعدة مسبقًا، بينما ننضج ونُلم بحريتنا، نبدأ بإمساك زمام أمورنا، لكن العديد منا يتقهقر إلى طفولته القديمة، يقايض الحرية بالأمان، فلماذا؟
البعض منا يُبعد عن أهدافه، والعديد منا يُتلاعب به لملاحقة رغبات لا تمثله، قد نُساق نحو مساعٍ عقيمة، وبذلك نُقصى من صنع مستقبل مجدٍ لأنفسنا.
المشكلة في أن المضطهدين لا يدركون عادة أنهم مضطهدون، يرون العالم ككيان لا يتغير “كوضع طبيعي”. المهرب الوحيد وفقا لبوفوار هو التمرد: “المضطهد لا يستطيع أن يبلغ حريته ككيان إلا في التمرد”
وكما قالت دي بوفوار في مقولتها الشهيرة: “الحياة تتمثل في تأبيد الحياة وفي تخطيها، إن كان كل ما تفعله هو الحفاظ على الحياة، فحينها لا تكون الحياة إلا عدم الموت” الحياة بالنسبة لدي بوفوار تغيير دائم، نظام غير مستقر حيث التوازن يضيع ويُسترد باستمرار، بالنسبة لها الهوادة مرادف للموت.
أحدث التعليقات