نعم للحداد لا للتسامح

ترجمة بتصرّف لمقال: (Mourning? Yes, Forgiveness? No by Robert Berezin)

الشفاء من الصدمة

أنا لم أدرك لماذا يحتل التسامح هذا المستوى العالي من التقدير. فقد كتب أليكسندر بوب”  الخطأ من الإنسان والعفو من الله” وكتب جيرالد جامبولسكي ”  يمكن الوصول للسلام الداخلي فقط عندما نتقن التسامح .فالتسامح هو إطلاق الزمام للماضي ، وبالتالي  هو الوسيلة لتصحيح مفاهيمنا الخاطئة .أخيراَ ، سوف تعلم أن  التسامح يبدأ عندما تتذكر من أساؤوا إليك وتستحضر القدرة على تمني الخير لهم والتفكير بذلك يجعلنا نؤمن بأن التسامح  يحررنا من الضغينة.

الحداد هو الآلية  التي من خلالها نصبح على وفاق مع الماضي (شاهد مقال – Mourning is the key) وهو الآلية التي تُضعِف من آثار الضغينة وليس من الخطأ أن تحمل غضباَ أو كرهاَ تجاه من آذاك ولكن سوف تأكلك حياَ إذا لم تحتد  و عندما تحتد ،  يمكنك المضي في حياتك للأمام  عندما يؤلمك أحدهم ، كيف يمكن للتسامح أن يحررك؟ سأقول لك أن التسامح   لايحرر ك من الضغينة فقط، بل وربما يمنعك من الحداد.

الحب والاحترام هما مبدأ العيش لحياة جيدة ،الاحترام يعني تقديس خصوصيات الآخرين ، مع الاندماج معهم من خلال الحب، إن خرق خصوصية الآخرين  هو مقياس غير أخلاقي ونقيض للاحترام ، وهذا الانتهاك نقيض الحب والاحترام ،إنه يخلق الشر في الحياة ومايسّرع العنف هو هذا الانتهاك والأمر كله يدور حول الحدود والخصوصية.

تتبلور شخصياتنا الذاتية من خلال علاقتنا ببئيتنا العاطفية وتتمقطع من خلال نظامنا الحوفي  – الحب من خلال الأوكسيتوكين والفازوبريشن والاعتداء من خلال السيروتونين والأدرينالين ، والكورتيزول. إن البيئة التي ترعى تطورنا واجتهادنا هي البيئة المناسبة لانفعالاتنا الحسية. أما البيئة التي تتبنى السوداوية والعوارض النفسية مثل الحرمان والإساءة والصدمات. تُشكل  شخصياتنا في السنوات الأولى، وذلك عندما تروي ضمائرنا  قصتها في بقية حياتنا ، إن الصدمات الإضافية في مرحلة الطفولة اوالمراهقة والبلوغ ،  يمكن لها أن تتلاعب برواياتنا  لتخلق روايات  سوداوية  وأكثر تعقيداَ – مثل الاعتداء الجسدي، والنفسي  ، والجنسي ، والموت ، والخسارة ، والحرب ، والترهيب ، والفقر ، والمرض، .. الخ

إن هذه الصدمات لاتخلق من فراغ إنها تضع داخل شخصياتنا الطباع الأسياسية الأربعة وهي كالآتي:  المتقبل والرافض، الاجتماعي أو أو المنغلق،الإيجابي أو السلبي ، المشارك أو المراقب.(شاهد مقال -“The Nature- Nurture Question)  كل وضع هو حالة لدرجة ما وفي النهاية طبع واحد أو أكثر من هذه الطباع يمكن أن يطغى على الآخر في تكوين شخصيتنا. كل واحد منا له  لديه تلك المجموعة من الطباع والأهواء . فنحن نتشرب من بيئتنا العاطفية ونتطبع بالحرمان والعنف، وإن استجابتنا تكون  من وحي طبع محدد ومنسق.

إن الصدمة يمكن لها أن تعيد صياغة أدوار مليئة بالسادية بدلاَ من الحب. وعندما تكون الصدمة كبيرة يمكن لها أن تستحضر كل الأعراض النفسية. التي  تولد القلق وتظهر الكآبة  لديك، وكل ذلك  يعتمد على طبعنا المزاجي ، أوالنشاط المفرط،  أو هوسنا القهري أو المرضي ، أو متلازمة فقدان الشهية ، أو النهم ، أو فوبيا الجراثيم ، أوحمى الغضب ، الهلع  ، شتى أنواع الرهاب ، جنون الشك ، الأوهام ، العزلة ، النرجسية ، جنون العظمة ، السادية ، المازوخية ، قلة الثقة بالنفس ، و حالات الاضطراب النفسي والعقلي.

إن طباعنا المزاجية تولد أعراض معينة وذلك من تلقينا للصدمة وتعاملنا معها بغض النظر عن  الأعراض النفسية التي  تبدو علينا ، فالصدمة أصل لهذه العوارض، بينما مزاجيتنا هي التي تحدد هوية هذه الأعراض إذ لايوجد أي مصدر أحيائي لهذه الأعراض إنها لم تنتج  من ناقلات عصبية دماغية مريضة  أو من خلال آلية  دماغية غير طبيعية.

الأعراض النفسية هي دلالات يجب لها أن تُسمع وتُلمس  لكي تعبر عن الشيء التي تجسده إنها مسرحية هزلية داخل مسرح الدماغ حيث هناك الوضع الخبيث الذي يضر بالمريض وهذا مايجب أن يشار إليه  في قصة حياتنا الفريدة فهي موضوع البحث الوحيد لطب النفس – القشرية العلوية والسفلية والمنطقية الشخصية  التمثيلية داخل مسرح الدماغ .

إن واقع الشخصية المنطقية ومحاكاتها هو المادة الأساسية لمعاناتنا النفسية ،أما ظهور الأعراض النفسية  يُبرز الأزمات المبنية داخل عوالم الشخصية المنطقية الإشكالية، “الأزمات ” في وحدة الكتابة الصينية تُصور  كملتقى طرق بين “الخطر” و ” الفرصة” فالأعراض النفسية تضعنا في وضع الخطر وفي الوقت نفسه توفر لنا الأزمات الفرصة ،لكي نضع يدنا على المعضلة الحقيقية.

هذه هي المسرحية للشخصية المنطقية الإشكالية،إن المعالجة النفسية تدور حول تعرية الحرب الداخلية  واسترداد  النفس  الحقيقية مع القدرة على الحب.

إن مفتاح العلاج النفسي هو رثاء المسرحية السادية المازوخية الإشكالية، في ظل علاقة قائمة على الثقة مع المعالج النفسي. وتتلاشى الأعراض من تلقاء نفسها بعد أن يتم تعطيلها، الحداد هو العملية الحيوية التي تتيح لنا أن نتخلى ونعطل خرائط الدماغ الناتجة عن الصدمة فعند مواجهة الألم ، نستطيع فعلاَ أن نمشي قُدماَ ، حيث لاندعه يتحكم بنا عند فعل ذلك ،  إن الفرد منا يمكن له إيجاد حالة جديدة تعبق بالحب والموثوقية،  أما عندما لانواجه الألم ونحتد منه ، فإنه سيظل يحكمنا  لأن تجاربنا المفجعة تبقى في خرائط الدماغ المتعلقة بتجربتنا ضمن ضغوط محددة ، ويمكن لهذه التجارب أن تومي برأسها وتؤثر سلباَ مجدداَ، ومع ذلك فإنه يمكن التحكم بها فنحن كائنات حية ، وليس آلات.

أن تكون معالجاَ نفسياَ فهذا خيار غريب فأي شخص يمكن أن يتفادى الألم بطرق عادية ، أما المعالج النفسي هو من يجب عليه أن يجالس الألم بكافة أنواعه، ومما يجعل الأمر صعباَ بالتحديد ، هو أن المعالج النفسي يجب أن يجلس مع حالات قاتمة و للأسف هذه الحالات هي التي تولد الأعراض والمعاناة .أما عند الحداد فيجب على المعالج النفسي أن يكون مستعداَ وأن يشعر ويتجاوب مع كافة المشاعر والاندفاعات التي نتجت عن الصدمة التي تلقاها المريض.

يجب على المعالج النفسي  أن يجلس ويتجاوب مع الاندفاعات  غير المريحة أو المقبولة داخله أيضاَ  وهذا يأتي ضمن صلاحياته ، إن المعالج النفسي يجب عليه أن يجلس ساكنا ولا يعقب على أي شئ فذلك يطلق العنان لاندفاعات المريض غير المسموحة بأن تظهر، وبالتالي أن يحتد، ويجب على المعالج النفسي أن يثبت نفسه داخل ميثاقية بحيث يطرد آلامه الشخصية ، كي يشعر بآلام المريض بتلقائية. هم ليسوا ” مرضى” وهو ليس ” بصحة جيدة” وليس لديهم بعض ” أمراض الدماغ” أجل . لابد للمعالج النفسي أن يتعامل مع أموره الشخصية بحيث لاتتداخل مع الجلسة العلاجية لمرضاه.

المعالج النفسي يجب أن يتقبل فكرة أن الأسوأ والأفضل من النفس الإنسانية أن تكون في ذاته ، فهو ليس أفضل أو أسوأ من مريضه.

هذا مثال بسيط: دعنا نقول أنك رفعت قدمك ودُست على  إصبع قدمي، هذا يؤلم. هذا الانتهاك الجسدي يولد نوعين من العدوان لدي أولاَ: العدوان الضروري بإزالة قدمك عن أصبعي، ثانياَ: العدوان السادي الذي يولد الرغبة لدي بأن أفعل  بك تماماَ ما فعلته بي أو بالزيادة قليلاَ. ذلك هو رد الفعل الإنساني  العادي – “العين بالعين والسن بالسن” فإن لم أتمكن من  فعل شيء، فإن كلا الانفعالين سوف يبقيان داخل تفكيري ، سوف يتقيحا ويبقيا بداخلي للأبد.

هذا مثال بسيط فقط عن الأذى السادي المازوخي فهو متمركز في الدماغ مع شخصية المعتدي وهو يعتدي على شخصية الضحية. الأذى متمركز  من خلال الجهاز الحوفي في الوقت الذي  يتغذى فيه العنف السادي من السيراتونين والكورتيزول والأدرينالين. فماذا يحدث أثناء الاعتداء الكبير؟

download

دعنا نتفحص شيء أكثر جديّة – الاعتداء الجنسي على فتاه –  حيث يعيد الاعتداء صياغة حالة الوعي بحد ذاته  إن أسوأ آثار الاعتداء الجنسي هو أن الجنس يولد رد فعل جنسي بناءَ على ذلك ، فإنه يزرع الانفعالات الجنسية والجرمية  داخل الضحية ومن المعتاد أن تنفصل الضحية عن تلك الاندفاعات وأن لاتميزها ، ولكن برغم ذلك فإن الاندفاعات الجنسية والجرمية قد توضعت بداخلها . وحتى لو أصحبت منفصلة  عن هذه الانفعالات ، فإن الضحية تشعر بأنها شخص سيء فهي غالباَ لاتلوم المعتدي عليها لأنها تميز اندفاعاتها السرية وتشعر بأنها هي المسؤولة عما حدث معها، فتشعر الضحية بالعار والذنب  ويمكن أن تشعر أيضاَ بأنها  سيئة ، قذرة ، منحرفة كما لو أنها عاهرة.

لذا الكثير من الفتيات اللواتي تعرضن للإعتداء الجنسي ينتهي بهن الأمر بالعيش في جانب الحياة الإباحي ، وذلك بدون أي ذنب اقترفنه. لقد رأيت ذلك مرات عديدة ولقد رأيت أيضاَ كيف يمكن للاعتداء الجنسية أن يولد اضطرابات انفصام الشخصية

إن عملية التشافي  تتبلور مع وجود علاقة وجدانية مبنية على الثقة مع المعالج النفسي ( وليس من السهل بناؤها ، حيث أن الثقة  قد تعرضت للخيانة)،  عندما تتجرأ الضحية وتكون على معرفة شخصية بوجود انفعالات ” سيئة ” داخلها وليس منها . فإنه من الصعب جداَ تقبل  وجود هذا النوع من الفساد في النهاية،  ومن خلال الغضب والحزن يفقد المعتدي قوته هذه نتيجة الحداد. على المدى البعيد ،وليس هناك  لمغفرة المعتدي أي مكان خلال هذه العملية ، كما هو في الحقيقة .

وإنه من الشائع جداَ أن يكون هناك ضغط للتسامح ، فإنه ييستخدم  في محاولة لتجنب الغضب و الحدة الجنسية ومن المفهموم كيف يمكن الشعور بتلك الطريقة إن هذه المحاولة لمساعدة الضحية بأنها تشعر أنها شخص “جيد” ، سينتج عن هذه المحاولة  بأن تدفن الضحية إحساسها الزائف بأنها سيئة  وبشكل أعمق.

أن تختلجك اندفاعات عدوانية وعدائية  فذلك لايجعلك سيئا في داخلك ، ماهو ذلك الشيء في العالم  الذي يكون له صلة بمسامحة  أب قد ارتكب فعل السفاح بابنته؟ فقد يتّم ابنته عاطفياَ وحطمها، إن الضغينة حتماَ شيء مناسب لهذا الفعل ولا يجب أن تنقلب  إلى عار أو كره للنفس، إن عملية الحداد تسمح لتلك الفتاة بتحرير  نفسها ، وبالتالي  أن تحيا ولا تدعُ من  اعتدى عليها بالتحكم بها وبحياتها هذا هو المقصد.

وماذا عن الاتهام الشائع ” أن تصدر أحكاماَ”؟ ليس هناك شي خاطئ في إصدار الأحكام ، كلنا نفعل ذلك كل فرد منا يطوف العالم  من خلال بوصلته  الأخلاقية الشخصية ، بدون أحكام لايكون هناك اختيارات أخلاقية. ليكون أحدنا على معرفة تامة  يجب أن يعلم ماتعلم ويعرف كيف يشعر حيال ذلك ، ثم يتم أخذ إجراءات  منبعثة من فهمك الخاص ، ذلك هو إصدار الحكم ليس هنالك شخصين متشابهين  تماماَ وجميعنا نحمل الأخلاق الفردية التي هي حصيلة تجاربنا في العالم بالطبع ، من هو الذي يستطيع القول أن معتقداتي هي أفضل أو أسوأ من معتقداتك ؟ هل يجب أن أفرض أحكامي عليك ، أو أنت تفرض أحكامك علي؟ السؤال هو كيف لنا أن نحتمل الاختلافات الأخلاقية ، ومتى يكون ذلك ملائم أو غير ملائم؟ أجل ، كلنا نصدر أحكاماَ. ولكن هذا شيء مختلف عن  كوننا نصدر الأحكام نفسها.

إن أحد الأحكام الثابتة الأساسية  والمتواجدة في موثوقية وجودنا  هو إصدار الحكم نفسه ( مع الضمير ، الإبداع ، منبع براءتنا)، إن إصدار الحكم يوفر لنا دليلاَ على أن بعض الدوافع لايجب أن نُبجلها  بل يجب أن نحدّ عليها بدلاَ من ذلك، إن التوجه الحقيقي يأتي من الصوت الداخلي والذي هو الموثوقية والحب ، و ليست القسوة . الحداد هو مايحررنا من قيودنا وهو مايجعل كينونتنا تتعافى وهذا مايجعلنا نمضي قُدماَ في حياتنا ، وأن نكون غير محكومين بالعيش مع سوء المعاملة  بل أن نحيا في بيئة أكثر اكتمالاَ برغم أن تقاطعات الإساءة  غير ملغية ، إلا أنها لاتزال موجودة مع احتمالية  إيقاظها في أي وقت ، لكن تبقى قيد التدبير وذلك يتيح لنا أن  لا نوطن السيناريو السادي المازوخي ذلك وفقا للحقيقة ، إن  الاستياء ليس قائمٌ فعلاَ.

فيما يتعلق بالتسامح  أنا أفهم أنه من المفترض أن يكون محرراَ والعديد من الأديان توعظ به  ولكن لست أدرك ذلك  فليس هناك أي أهمية في أن نسامح المسيء ولايجب لمن أساء أن يلعب دوراَ في الحياة  أياَ كان الوقت الوحيد  الذي يكون للغفران أي صلة ، هو عندما تكون العلاقة إيجابية  ودرجة الخيانة  وسوء المعاملة قليلة بالمقارنة مع من أساء إليك  فهو فعلاَ يشعر بالندم ، ويود أن يفعل مابوسعه لتعويضك عما فعله. عند ذلك يمكن أن يكون مُجدياَ بأن تدعه يعود لحياتك مُجدداَ وماعدا ذلك فإنك تُعد لنفسك  حجماَ أكبر من سوء المعاملة  من شخص قد كشف لك  ألوانه الحقيقية .

سأترك لك اقتباس من أوسكار وايلد” اغفر لأعدائك دائماَ ، لاشيء يزعجهم بذلك القدر”.

الكاتب

روبرت أ بيرزين ، هو مؤلف كتاب ” Psychotherapy of Character, the Play of Consciousness in the Theater of the Brain”

المصدر

أحدث المقالات
أحدث التعليقات
الأرشيف