أمراض الحياة الحديثة

تدقيق: محمد المهندس
شهدت مراكز الاستشارة الجامعية تزايداً كبيراً في عدد الطلبات المقدمة من الطلاب لخدمات الاستشارة، وقد بينت الاحصائيات أن القلق يحتل المركز الأول بين المشاكل النفسية التي يواجهها طلاب الكليات في الولايات المتحدة بنسبة تصل إلى 46%، يليه في الترتيب الاكتئاب بنسبة تصل إلى 34% (جمعية علم النفس الأمريكية، 2014). وتمثل هذه الأرقام ارتفاعاً كبيراً عما كانت عليه في الماضي، فما هي الأسباب والعوامل المساهمة في ارتفاع نسبة القلق والاكتئاب بين الطلاب؟
قد يصعب على الفرد تقبل حقيقة عيشنا في عالم أفضل الآن، حيث تم القضاء على العديد من الأمراض المميتة، كما أختُرعت تقنيات ثورية، وقد أصبح العالم أقل عنفاً، ونسبة الفقر في تناقص مستمر، وأيضاً فقد انتشر النظام الديموقراطي، وعلى أثر ذل فقد أصبح العديد من الناس يتمتعون بحقوقهم، والقائمة قد تطول لتشمل صفحات متعددة من الانجازات، ولكن بالطبع هناك أثار جانبية لهذه الامتيازات، والتي أسميها “أمراض الحياة الحديثة” ومن أهم أعراضها التوتر والقلق والاكتئاب.
الدراسة الجامعية وأعبائها المالية تعد أهم العوامل لانتشار القلق والاكتئاب بين الطلاب، حيث يخوض الطلاب غمار منافسة قوية حتى يتسنى لهم تحقيق النجاح والحصول على الشهادة الجامعية والوظيفة الملائمة. كما يخوضون معركة قاسية للحصول على المزيد من المؤهلات لإثراء سيرهم الذاتية بسبب تزايد المتطلبات التعليمية اللزمة للحصول على فرص العمل. وقد أتت هذه الظاهرة محملة بأعباء مالية ثقيلة، حيث ارتفعت أجور التعليم ورسومه للمؤسسات التعليمية العامة بنسبة 33% خلال السنوات العشر الأخيرة، فما كانت دراسته تكلف 7500$ في عام 1984م أصبح يكلف أكثر من 16000$ في علم 2015 م بعد التعديل باحتساب نسبة التضخم (المركز الوطني للإحصاء التربوي، 2015)، وقد أثبتت الدراسات وجود رابط إيجابي بين الضغوط المالية وزيادة نسبة القلق والاكتئاب لدى طلاب الكليات (أندروز وويلدينغ، 2004). وبالنظر إلى الدور الحاسم الخاص بدرجات الكليات، والتكاليف المالية المرتبطة بها، فإنه ليس من الغريب أن يكون الأداء الأكاديمي والمسؤوليات المالية أثنان من أكبر الضغوطات التي يتم مواجهتها في الكلية (ليم وآخرون، 2014).
ويعد التقدم والانتشار السريع لوسائل الإعلام الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي، والتي تُعد أحد المسببات لأمراض العصر الحديث. وتبلغ نسبة المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي من البالغين الأمريكيين نسبة 85% ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و 29 عاماً (كيم، وانغ، & أوه، 2016)، وتشكل هذه التكنولوجيا سلاحاً ذو حدين، فلها منافع كثيرة ولكن قد تخلف أثارا سلبية على صحة الفرد النفسية (زاغورسكي، 2017)، وطلاب الجامعات بالطبع هم أكثر عرضة لهذه الأثار بسبب الفترة الانتقالية الحرجة التي يمرون بها، ففي غمرة بحثهم عن القبول الاجتماعي وتشكيل هوياتهم وإقامة الروابط الاجتماعية، فقد تساعدهم وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنها قد تعرضهم للانتقاص من الذات ومحو الاحساس بالإنجاز بسبب المشاركة المتكررة في مقارنات غير متكافئة مع أقرانهم. وقد أثبتت العديد من الدراسات الآثار الضارة لوسائل التواصل الاجتماعي على تصور الذات، وزيادة القلق، والاكتئاب (زاغورسكي، 2017).
وبالطبع لا يمكن أن نتحدث عن أمراض العصر الحديث بدون ذكر دور الرأسمالية والقيم المادية المرتبطة بها، ولا نستطيع إنكار حقيقة عيشنا في مجتمع قائم على المال، ويثني على أصحاب الثروة، ويرفع من مكانتهم الاجتماعية، وقد تشكلت هذه القيم في عقليات الشباب فأصبحوا يركزون على الأهداف الخارجية المتعلقة بالمال والمنصب والمكانة الاجتماعية ويغفلون عن الأهداف الجوهرية والتنمية الشخصية، حيث أن جيل الألفية يعظم المال والشهرة بينما لا يولون اهتماماً لقبول الذات و الإنتماء والمجتمع، وقد خلقت لنا هذه الأفكار ما يعرف بــ (جيل الأنا) اللاهث وراء الشهرة والمال والمكانة، فعند عدم الحصول عليها يتزايد القلق وتظهر أعراض الاكتئاب (تونج وكامبل، 2012).
وإن كنا نحرص كثيراً على التقدم الذي نحرزه كبشر، فينبغي علينا بذل مزيد من الاهتمام للنتائج غير المقصودة، فالصحة النفسية السيئة لدى الشباب هي مثال على هذه النتائج السلبية التي تشكل تحدياً يجب مواجهته.
أحدث التعليقات