رسم السماوات: كيف شكّل علم الكونيات منظورنا عن الكون و كيف نشأت القصة الغريبة لمصطلح “الثقب الأسود”

ترجمة بتصرّف لمقال: (Mapping the Heavens: How Cosmology Shaped Our Understanding of the Universe and the Strange Story of How the Term “Black Hole” Was Born by MARIA POPOVA)

من السجن المريع في كالكوتا إلى أبراج العاج في كامبردج عن طريق الأساطير القديمة و آينشتاين.

بواسطة ماريا بوبوفا
“عندما يحدق البشر في السماء اللانهائية و البعيدة و القائمة بغض النظر عن حياتهم التافهة, يبقى لديهم تجارب دينية “, المؤرخ كارين أرمسترونج كتبه في دراسة للأساطير القديمة. “السماء علت فوقهم بشكلٍ هائل لا يصدق, أبدية ولا يمكن الوصول إليها.” كان ذلك هو جوهر التفوق و الإختلاف, إنّ الإحساس الغريزي الفطري الذي لدينا ينقضُّ على ذلك الإختلاف المبهم فلقد أمضينا 4,000 عام و نحن نرسم السماوات. و لكن حين تسعى الأساطير لاحتواء ذلك الإتساع الهائل في مجموعة من الأفكار اليقينية الوهمية, فإنّ العلم يستخدم كل قطعة جديدة من المعرفة على أنّها مفتاح بابٍ إلى مجهول واسع. جذبت الفلكية الرائدة ماريا ميتشل الإنتباه إلى ذلك بجمال في مذكراتها: “نصل إليها و تُجهد كل أعصابنا و لكن علينا اغتنام القليل فقط من الستار الذي يخبيء اللانهائية عنا.”
لقد كان ذلك في القرن الماضي أو نحو ذلك, الكثير من الشكر لنظرية آينشتاين النسبية التي ابتكرت طرقاً منهجية لرفع الستار تدريجياً. في رسم السماوات: تكشف نظرية بريامفادا ناتارايان, عالمة الفيزياء الفلكية في جامعة ييل,كيف شكّل علم الكونيات الحديث و الفيزياء الفلكية طريقة فهمنا للكون و أين نقع فيه. استخدمت ناتارايان الإستفسارات أثناء القيام بأبحاثها بتركيزها على كيف تشكلت الثقوب السوداء و تخطيط المادة السوداء مسلّطةً الضوء على بعض الإكتشافات الأكثر أهمية و ارباكاً في العلم. الجانب المشرق في تاريخ هذه النقلة النوعية للتقدم المفاجئ في المعرفة هو التدبّر في كيف اختُلقَت هذه الأفكار الرائدة و كيف اختبرت ضد الواقع و المتنازع عليها من قبل مقاومة الإنسان المثالية لما هو متعارف عليه و راسخ في عقله.

cosmigraphics73

استُخرج نيبرا سكاي ديسك أو قرص نيبرا سكاي (1600_2000 ق.م) بطريقة غير قانونية في ألمانيا عام 1999م و يعتبر كأقدم تصوير معروف للأجرام السماوية. جزء من ثقافة العصر البرونزي كانت ثقافة Únêtice التي تصوّر الشمس أو القمر كاملاً أو الهلال القمري و النجوم على لوح مطروق من النحاس و الذهب.

كتبت ناتاريان :
إنّ رحلة قبول أي فكرة تكشف العديد من جوانب العلم, سواءً أكانت عاطفية أو نفسية أو شخصية, أو الأبعاد الإجتماعية التي تتجاوز السعي الفكري المحض من المعرفة.
يتطور العقل العلمي خلال التدريب ليصبح ذكياً و يختبر تطبيق العلم هذا الذكاء بشكل يومي. إنّ هذا يساعد على تحصين العلماء ضد الصدمات المربكة عندما تكثر البيانات الجديدة و يغيّر الدليل أفضل التصورات الحالية.

كما أن العلم يقف كحالة نادرة غير مريحة عند تغيير فكرٍ كامل لشخص ما وسط مجتمع تنبع ثقافته من القناعة الزائفة بالرأي الثابت. التركيز على الجدول الكوني الزمني في القرن الماضي على وجه الخصوص, هو دليل بارز على السرعة في إعادة النظر لتقبل الحقيقة.

كتبت ناتاريان :

في عام 1914, مجرتنا مجرة درب التبانة, التي شكلت الكون كله كانت وحيدة و راكدة و صغيرة. لا يزال يعتمد البحث الكوني بشكل أساسي على المفهوم الكلاسيكي للجاذبية الذي تم تطويره في القرن 17. إنّ الفيزياء الحديثة و نظرية النسبية العامة قد غيرت فكر الإنسان بالكامل عن المكان و الزمان. الآن نستطيع أن نرى الكون كمكان حيوي, يتمدد بتسارع نسبي و هو المسؤول عن غموض مكونات المادة السوداء و الطاقة المظلمة الغير مرئيين. أما المتبقي فهو جميع العناصر الموجودة في الجدول الدوري, المادة التي تشكل النجوم و نحن و التي تمثل 4% فقط من المخزون الكلي للكون.

دونت الفيزيائية الفلكية ناتارايان في ملاحظاتها تعدد أدوات العلم و المنطق عن طريق تحرّي نفس الأسئلة التي حاول أجدادنا من قبلنا حلها عن طريق الأساطير:
لعل علم الكونيات هو أكثر أهمية من أي فرع علمي آخر, هو لم يغير فقط مفهومنا عن الكون ولكن موقعنا فيه أيضاً. و ذلك يحتاج لأن نحدد مواقع أنفسنا و أن نفسر الظواهر الطبيعية التي تبدو بدائية. تشاركت أساطير الخلق القديمة بأوجه شبه عبر الثقافات, كما أنها ساعدت البشر على التعامل مع الظواهر الطبيعية العنيفة المجهولة. ترسّخ هذه التفسيرات الخارقة للطبيعة الاعتقاد في واقع غير مرئي ولكنه أكثر قوة. إلى جانب ذلك, هم يعتمدون بعمق على توجيه إحساسنا بالتعجب من العالم الطبيعي. تمكّن مخيلة الإنسان المعقدة الحضارات القديمة من تصور الكيانات الغير موجودة و لكن ما زالت تبدو حقيقية. لنأخذ على سبيل المثال إنكي, فإنكي هو الإله السومري للماء الذي أطلق عنان غضبه عن طريق الفياضانات أو الإله الهندوسي للمطر و العواصف الرعدية. و هناك إندرا الذي كان قوس قزح هو قوسه الذي يمتد عبر السماء مع صاعقة كأنها سهمه. إن أقوى أنواع الأساطير هي التي تجبرنا على أن نأخذ قفزات هائلة من الخيال و لكن بالوقت نفسه تساعدنا على أن نبقى راسخين.

حيث أن العلم يختلف عن الأساطير بأنّ نتائجه متجذرة بالثقافات من خلال تجارب دقيقة ضد الواقع الجدير بالملاحظة و ليس من خلال مجرد تأكيد, كتبت ناتاريان :
يكمن جمال العلم في أنّ النظرية دائماً ما تكون مؤقتة فهي تمثل أفضل دليل و تفسير نمتلكه في أي لحظة. على الرغم من كون العلم عرضه للمراجعة, فإنه قائم على أدلة قابلة للتجديد, و الذي يمنح امتيازات علمية على جميع التفسيرات الأخرى المحتملة.
و على الرغم من أنّ العلم يعتبر كجهد بشري فهو ليس هدفاً تماماً, فهو لا يزال يعرض أفضل الإكتسابات للأدلة المرجحة و يحاول جعل العالم الطبيعي أكثر منطقية. يصحح العلم نفسه ذاتياً لأنه قد يكون متغيراً و غير مكتمل. فهذه أفضل طريقة لدينا للعبور و لجعل هذا الكون العجيب منطقياً. منذ قرون, قام العلم بمساعدتنا في رسم علاقتنا مع العالم الطبيعي. و كأي خريطة جيدة فإنها لا تشير إلا إلى الأمام.

و لكنّ طريق الإجابات قطعاً مختلف, فهناك يوجد تشابه عميق في الأشياء الكامنة وراء الفضول. اعتبرت ناتارايان أن انبهارها الأوّلي بغموض الكون و الخيط الخفي الذي يربطها بطفولتها في الهند, مشاهدتها للنجوم و محاولتها لرسم خريطة الكون بواسطة برنامج كومودور 64 و الذي يعد الآن عتيقاً, بالنسبة لحياتها الآن كعالمة فيزياء فلكية راشدة تقوم بأبحاث متطورة في أكثر المؤسسات الأكاديمية شهرة في العالم:
إن أساس أبحاثي كعالمة فيزياء فلكية أرسم المادة السوداء و أفهم طريقة تركيب الثقوب السوداء يقودني إلى نفس الإحساس بالتعجب و البحث عن تفسيرات للكون ربما شعر بها القدماء. أنا لا أزال مرتبطة باستكشاف معاني الخرائط و كيفية إرسائها لنا, و المسائل التي أبهرتني أولاً كفتاة في دلهي. يستغل عملي إنحناء الضوء من المجرات البعيدة و تصوّر الجاذبية لتحديد المادة السوداء الخفية التي تسبب تلك الإنحرافات. أيضاً, قمت بالتحقيق في تركيب و نمو الأجرام الأكثر غرابة و غموضاً في الكون و هي الثقوب السوداء.

في الواقع, واحدة من الأجزاء الأكثر روعةً في هذا الكتاب أنه يبحث في التاريخ عن أنّ كيف لمصطلح “الثقب الأسود” — مصطلح الآن في طليعة حقبة جديدة من علم الجاذبية الفلكي— جاء ليصبح منذ بزوغه كاستعارة للكره و النسيان إلى استخدامه الحالي في العلوم.

حددت ناتارايان خارطة طريق للمصطلحات:

لم تكن الخصائص الغريبة للجسم الفلكي هي السبب في تسميته بمصطلح “الثقب الأسود” ولكنه استوحي من سجنٍ سيئ السمعة. كان هذا المشهد من الحادث المروع. نوّاب سراج الدولة أو حاكم البنغال في ذلك الوقت, استولى على كالكوتا و أخذها من قوات شركة الهند الشرقية و كان ذلك بقيادة جون هولويل الذي نصّب نفسه كمحافظ للبنغال. عند الإستسلام, قام نوّاب بسجن هولويل و العديد من الأوروبيين في الزنزانة الخاصة بالشركة طوال الليل, كانت غرفة ضيقة و مظلمة و ما يقارب 6 أمتار (20 قدماً) طولاً و 4 أمتارٍ (13 قدماً) عرضاً مع نافذتين صغيرتين معروفة ب “الثقب الأسود.” أقرّ مسؤولي شركة الهند الشرقية في سجلات الحادث أن 146 شخصاً حبسوا في هذه الزنزانة الصغيرة من دون ماء كافي و في حرارة مرتفعة جداً و الذين نجوْا كانوا 23 شخصاً فقط. أيضا قام باحثون مثل جي.إتش ليتل باستدعاء هؤلاء الأشخاص للاستجواب. إنّ ثقب كالكوتا الأسود لا يزال قويا و ذكرى مروعة و تعبير دنيء عن القسوة التامة لنوّاب. دخل “ثقب كالكوتا الأسود” سريعاً في الوعي الجماعي كمرادف لأكثر التجارب فظاعةً. عندما دمرت النار المشتعلة بناء كوميك الأوبرا في باريس, صرّح مراسل نيويورك تايمز بأن المقاعد و الصناديق و الشرفة جميعها قد ذهبت و وصف المبنى بأنه “ثقب أسود هائل.”

و تم اعتماد عبارة “ثقب أسود”من قبل الفيزيائيين بأن لديها تاريخ أدبي طويل من الإشارات التي تدل على الزنزانات المظلمة. لقد قام إدجار آلان بو باستخدام ذلك في قصته القصيرة “الدفن قبل الأوان”. و مؤخراً, أشار توماس بينتشون في عام 1997 إلى “ثقب كالكوتا الأسود” في روايته مايسون و ديكسون التي أُصدرت في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية. إنّ استخدامه في العلم يمكن أن يرجع إلى الفيزيائي المؤثر جون أرتشيبالد ويلر الذي أشاعه بين الناس ولكنه لم ينشئه. المنشيء,كما هو الحال غالباً في الإكتشافات اللغوية, كان شخصاً عادياً تاريخه بقي مجهولاً. نقلت عالمة الفيزياء الفلكية جانا ليفين القصة الأصلية في كتابها الساحر “موسيقى الثقب الأسود”: بالاستخدام الممل المثير للضجر لأجسام الجاذبية المنهارة تماماً, ويلير بحث عن مصطلح مختصر أكثر من خلال محاضرة قدّمها عام 1967, حيث صرخ أحد المستمعين قائلاً: “ماذا عن الثقب الأسود ؟” أخذ ويلر العبارة و ذهب ليضمها إلى المحاضرات و الأوراق حتى أصبحت مصطلحاً سائداً.

أشارت ناتارايان إلى كمال غير مقصود لهذا المصطلح الذي انشئ عفوياً:
و لعل أكثر شي مثير للدهشة هو أن كيف يمكن أن يكون جيداً لبعض هذه الأوصاف أن تلائم الجسم الفيزيائي الذي لم تتم ملاحظته. في علم الفلك يعتير الثقب الأسود موقعاً جغرافياً لا رجوع منه.

تتبعت ناتارايان مسار المصطلح المثالي للفيزياء الفلكية من السجون المروعة و الحازمة في كالكوتا إلى أبراج العاج في كامبردج, بريطانيا:
عندما طرح قسيس الدولة الإنجليزي جون ميتشل فكرته ل”النجم الأسود” لأول مرة, لم يكن يتصوّر أبداً أننا بيوم ما سنكتشفها. ميتشل كان متعدد الثقافات, درس في جامعة كامبردج. لاحقاً, قام بتعليم اللغة العبرية و اليونانية و الرياضيات و الجيولوجيا هناك. على الرغم من عدم توفر صور له, لكن هناك وصف معاصر له بأنه “رجل شاب وقصير يمتلك بشرة داكنة و سمين”. انتقل رجل الدين من كامبردج إلى أبرشية (كنيسة) في ثرونهيل, قرب ليدز. و على الرغم من إلتزاماته و واجباته, فلقد كان العلم دائما في الطليعة و كانت سمعته عن الإبداع مثل العديد من علماء هذه الأيام أمثال بنيامين فرانكلين و هينري كافينديش فقد زاروا و حافظوا على المراسلات المنتظمة معه. كان لديهم الكثير ليتم مناقشته; تتضمن إسهامات ميتشل العلمية وصف قوة المجالات المغناطيسية و وضع نظرية لكيفية انتشار الزلازل بسبب تصدّعات على سطح الأرض.

في رسالة إلى هينري كافنديش,توقع ميتشل أنّ فكرة مثل فكرة “النجم الأسود” ستتم ملاحظتها فقط من خلال تأثيرها على الأجسام التي تدور حولهم.

و لكن بما أن نظرية نيوتن عن جسيمات الضوء قد فشلت, فبذلك فإن مفهوم ميتشل عن النجوم السوداء لم يعد منطقياً. سيكون قد مرّ قرنٌ و نصف منذ أن افسحت نظرية آينيشتاين للنسبية العامة المجال في شريعة الفهم العلمي لاحتمال حدوث مثل هذه الأجسام الفلكية المظلمة.

و تعتبر ناتارايان أن دور الثقوب السوداء في الوقت الحالي لا غنى عنه في الكشف عن اللغز الكوني و الحيرة التي في أذهاننا:
اليوم, نحن نعلم أن الثقوب السوداء تتواجد في مراكز معظم المجرات، إن لم يكن كلها. تضم مجرتنا درب التبانة, ثقباً أسوداً كتلته تساوي 4 ملايين مرة أضعاف كتلة الشمس. للأسف, إنّ النظام الشمسي بالنسبة لنا بعيد جداً عن مركز درب التبانة لنشعر بوجود أو تأثير الثقب الأسود المركزي.
يؤمن الفلكيون الآن بأن الثقوب السوداء, بغض النظر عن سلوكياتها الغريبة, نتيجة حتمية للفيزياء القياسية التي تصف تطور النجوم. تتوقع نظرية تطور النجوم أنّ النجوم ولدت و كتلتها خمسة عشر إلى عشرين مرة اضعاف كتلة الشمس و بعد أن تستنفذ عنصر الهيدروجين الذي يعمل كوقود لها فإن حياتها ستنتهي كثقوب سوداء. قد تمتلك الثقوب السوداء خصائص غريبة ولكنها مكونات ضرورية للكون تلعب دوراً هاماً في تجميع و تطوّر المجرات.

تقول ناتارايان بأن هذا الطريق الصعب و الوعر من التصورات إلى القبول, يرمز إلى كيف لهذه الإكتشافات العلمية الرئيسية أن تميل إلى التقدم و كيف لرحلة أجدادنا المنطقية بأن تنكشف:
نحن نعيش في كون محيّر و نموه في تسارع و في فترة غير مسبوقة من التاريخ البشري, كان يجب علينا التنافس بكثرة مع أفكارنا المؤقتة. نحن نمتلك خريطة كونية و هي في حالة تغيّر مستمر. في الحقيقة, إنّ طبيعة الحقائق العلمية التي تخضع للصقل و المراجعة تعد الآن جزءاً لا مفر منه من واقعنا. إنّ رؤيتنا للعالم قد تغيرت بشدة في المئة عام الماضية, معيدة كتابة من نحن بمنطقية أكثر, و من أين أتينا, و إلى أين نحن نتجه.

المصدر

أحدث المقالات
أحدث التعليقات
الأرشيف