التسويف المحمود والمذموم

ترجمة بتصرّف لمقال:(Good and Bad Procrastination By Paul Graham)
مصدر الصورة:(Unsplash)

كتبه: بول جراهام.

ترجمة: مرام الدوسري.

تدقيق ومراجعة: أحمد موسى

 

 

أغلب الأشخاص الرائعين الذين أعرفهم مسوّفون جدًا، فهل يُمكن ألا يكون التسويف مذمومًّا دائمًا؟  

أغلب من يكتب عن التسويف يكتب عن كيفية معالجته، لكن هذا بالتحديد أمرٌ مستحيل؛ لأنك حين تقوم بمهمة ما، لا تستطيع وقتها العمل على غيرها، فهناك عدد لا حصر له من المهام التي يسعك القيام بها بدل ما تعمل عليه الآن. ينبغي أن يكون السؤال إذن عن كيفية التسويف تسويفًا محمودًا، بدلًا من كيفية تجنّب التسويف. 

ثمة ثلاثة أنواع من التسويف حسب ما تفعله بدلًا من العمل على شيءٍ ما:

(أ‌)               لا تعمل على شيء.

(ب‌)          تعمل على شيء أقل أهمية.

(ت‌)          تعمل على شيء أهمّ. 

وأزعم أن آخر نوع يُعدّ تسويفًا محمودًا.

إن الأستاذ شارد الذهن الذي نسِي أن يحلق، أو يأكل، أو ينظر أين يتجه وهو يمشي بينما يفكّر في سؤالٍ مثير للاهتمام يُعدّ مثالًا على التسويف المحمود، حيث أن فِكرَه غائبٌ عن أداء المهام اليومية لأنه يعمل بجدّ على مهام أخرى. 

وهذا المعنى الذي قصدته عندما قلت أن أغلب الأشخاص الرائعين الذين أعرفهم مسوفون، فهم مسوّفون من النوع الثالث: يؤجلون القيام بالمهمات الصغيرة للعمل على الكبيرة.

لكن ما هي “المهام الصغيرة؟” يمكن القول أنها تُعد أعمالًا من المستحيل أن تُذكر في مقال نعيك، رغم أنه من الصعب أن تدرك الآن أي أعمالك سيكون الأفضل (هل ستكون تحفتك الفنية في بناء المعابد السومرية، أو رواية الإثارة والتحري التي كتبتها ونشرتها باسمٍ مستعار؟) على كلٍ، توجد الكثير من المهام التي يمكنك شطبها مما سيُذكر في نعيك وأنت مطمئن البال، مثل: الحلاقة، وغسيل الملابس، وتنظيف المنزل، وكتابة عبارات الشكر، وأي شيء يُقال عنه مهمة يومية.

ويعني التسويف المحمود تجنّب هذه الطلبات الصغيرة لإعطاء الأعمال الحقيقية حقها.

فهو تسويف محمود بهذا المعنى على الأقل، رغم أن من يريدك أن تقوم بصغائر الأعمال تلك من أجله لن يراه محمودًا. لكن ربما عليك أن تتركهم وضيقَهم منك حتى تنجز ما تعمل عليه، فحتى ألطف الناس يتركون الهوادة عندما يريدون أداء عمل حقيقي، فيجتنبون تلك الصغائر.

يختفي إزعاج بعض الصغائر إذا تجاهلتها، مثل الرد على الخطابات (ولو أنها ربما تأخذ معها الأصدقاء)، ولكن بعضها تصبح أسوأ عندما تؤجلها، مثل جزّ العشب والتقديم على الإقرار الضريبي. مبدئيًا، لن ينفعك تأجيل تلك الأخيرة، فستضطر إلى فعلها في نهاية الأمر. فلمَ لا تفعلها الآن (كما تقول إشعارات المستحقات المتأخرة دائمًا)؟

وتكمن فائدة تأجيل الصغائر في أن العمل الحقيقي يتطلب أمرين لا تحتاجها هذه المهمات: وقت كثير ومزاج مُلائم. فإذا أُلهِمت فكرة مشروعٍ ما، ثم تركت الصغائر التي كان من المفترض عملها في الأيام القادمة عاملًا على ما أتاك بدلًا من ذلك، فقد يكون هذا فوزًا عظيمًا لك. صحيح أن هذه الصغائر التي أجلتها قد تكلفك الكثير من الوقت حين العمل عليها، ولكن إذا أتممت قدرًا وفيرًا من مشروعك في تلك الأيام، فهذا يزيد إنتاجيتك عن ذي قبل.

وفي الحقيقة، فإن الاختلاف قد لا يكمن في درجة العمل بل في نوعه، فتوجد الكثير من الأعمال التي لا يمكن إنجازها إلا بفترات زمنية طويلة دون مقاطعة شخص ولا شيء عندما يأتي الإلهام، بدل التقيد بفترات قصيرة. هكذا يبدو الأمر إمبيريقيًا. عندما أفكر بمن أعرفهم ممن حققوا إنجازات عظيمة، لا يطرق بالي فكرة تقيّدهم بشطب ما أنجزوه من قائمة المهام، بل أتخيل أنهم كانوا يتسللون تاركين القيام بالصغائر ليعملوا على أفكارٍ جديدة. 

على النقيض تمامًا، فإن إجبار شخصٍ ما على عمل الصغائر باستمرار يقلّل إنتاجيته. ومقاطعة شخصٍ لا تضيع وقته فحسب، بل تنَصِّفه في كلا الجانبين، الصغائر والمشاريع العظيمة. وإذا ما تكررت عدّة مرات في اليوم، فغالبًا لن يعود قادرًا على العمل على مسائل صعبة.

دائمًا ما تساءلت عن السبب الذي يكمن وراء أن الشركات الناشئة أكثر إنتاجًا في بداياتها عندما كان يجتمع مؤسسوها القلّة في شقةٍ ما، ويبدو أن السبب الرئيسي أنه لم يكن يقاطع عملَهم أحد. قد يكون من الأفضل نظريًا قدرة المؤسسين على جمع المال لتوظيف أشخاص يقومون ببعض العمل عنهم، ولكن قد يكون إجهاد أنفسهم بالعمل أفضل من مقاطعة عملهم. فبمجرد أن يدخل الشركة الناشئة عُمّال مكتب عاديون مسوّفون من النوع الثاني، فإن الشركة بأكملها ترقص على أنغامهم، فهؤلاء الموظفون معتادون في عملهم على مقاطعته، وقريبًا سيصبح مؤسسو الشركة مثلهم أيضًا.

إن الصغائر فعّالة جدًا في قتل المشاريع العظيمة، بل إن كثيرًا من الناس يعملون عليها لهذا السبب. فعلى سبيل المثال، شخص ما قرر أن يكتب رواية، سيكتشف فجأة أن المنزل يحتاج تنظيفًا، فمن فشلوا في كتابة رواية، لم يجلسوا على صفحة فارغة عدّة أيام بدون كتابة أي شيء، بل فشلوا لأنهم استجابوا لهذه الصغائر، كالذهاب لشراء شيء يحتاجونه للشقة، أو لقاء صديق لاحتساء القهوة معًا، أو تفقد البريد الإلكتروني، ويتبعونها بقولهم: “ليس لديّ وقت للعمل.” وبالفعل ليس لديهم أي وقت للعمل، فقد فعلوا ما يلزم ليتأكدوا من ذلك.

(يوجد أيضًا من يقول أنه لا يملك مكانًا مناسبًا يعمل فيه، فالحلّ أن يذهب إلى الأماكن التي عمل بها أناسٌ مشهورون حتى يرى كيف كانت غير مناسبة للعمل هي الأخرى.)

لقد تحججت بهذه الأعذار في أوقات مختلفة، لكنني تعلمت طوال السنوات العشرين الأخيرة حيلًا لأقوم إلى العمل. مع ذلك فإني حتى الآن ما زلت لا أربح دائمًا، فبعض الأيام أعمل فيها عملًا جادًا، والبعض الآخر يضيع في الصغائر، وأعلم أنه خطئي غالبًا: فقد جعلت تلك الصغائر تستنزف اليوم حتى أتجنب مواجهة المسائل الصعبة.

يعد النوع الثاني غير المُعترف به أخطر أنواع التسويف، لأنه لا يجعل الشخص يشعر بأنه تسويف أصلًا، فهو “ينجز أعمالًا” غير أنها ليست الأعمال التي ينبغي إمضاء الوقت فيها.

أي نصيحة لمعالجة التسويف تُركز على شطب ما أُنجز من قائمة المهام لا تُعد نصيحةً ناقصة وحسب، بل هي قطعًا مُضلّلة ما لم تحسب حساب كون تلك القائمة صورة من النوع الثاني. في الحقيقة فإن كلمة احتمالية ضعيفة جدًا في توصيل المعنى؛ لأن الكل تقريبًا يُعد مسوّفًا من النوع الثاني مهما أنجز من صغائر، ما لم يعمل على المشاريع الكبيرة التي بمقدوره العمل عليها.

في المقال المشهور الذي كتبه ريتشارد هامينق: أنت وبحثك العلمي (أنصح أن يقرأه أيُ طَموح مهما كان مجاله)، اقترح ريتشارد أن يسأل الشخص نفسه ثلاثة أسئلة:

ما هي أهمّ المشاكل التي تواجهها في مجال عملك؟

هل تعمل على أيٍ منها؟

لم لا تعمل عليها؟ 

كان ريتشارد هامينق يعمل في مختبرات بيل عندما سأل نفسه هذه الأسئلة. مبدئيًا، فإن أي شخص هناك كان لا بد أن يكون قادرًا على العمل على أهم المشاكل في مجاله، ولكن ربما لم يكن الكل متساوين في قدرتهم على ترك بصمة مُؤثرة في العالم. لا أعلم، ولكن مهما كانت إمكانياتك، يوجد مشاريع يمكنها أن توسع إمكانياتك، لذا يُمكن أن يُوسَّع نطاق أسئلة هامينق لتصبح كالتالي:

ما أفضل شيء يمكنك العمل عليه، ولم لا تعمل عليه؟ 

أغلب الناس سيتجنب هذا السؤال لأنه يبعث على التوتر، وأنا نفسي أتجنبه أيضًا، أراه مكتوبًا على الصفحة فأنتقل بسرعة للجملة التالية، كان هامينق يتجوّل فعليًا طارحًا هذا السؤال على الناس؛ رغم أن ذلك لم يزد شعبيته بينهم، ولكنه سؤال يجب أن يُطرح على كل طَموح.

وتكمن المشكلة في أنك قد تُفاجَأ بكبر الأمر، فلا تكون قد أحسنت عملًا بمجرد البحث عن مشاريع جيّدة، بل حالما تجد هذه المشاريع، عليك أن تبدأ العمل عليها، وربما يكون هذا صعبًا؛ فكلما كبُرت المشكلة، اُستصعب العمل على حلّها.

وبالطبع فإن استصعاب الناس العمل على حل مسألةٍ ما يكمن سببه الرئيسي في عدم استمتاعهم بها، خاصة عندما تكون صغير السن، غالبًا ما ترى نفسك تعمل على أشياء لا تعجبك، وسبب هذا – مثلًا – أنك لا تجد هذه الأشياء جذابة، أو أنك قد عُينت لتعمل عليها. غالب طلاب الدراسات العليا عالقون في العمل على مسائل هامة لا تعجبهم، وبالتالي فإن كليات الدراسات العليا مرادفة للتسويف.

لكن حتى لو أعجبك ما تعمل عليه، فإنه من الأسهل أن تعمل على الصغائر بدل الكبائر. ولكن لماذا؟ لمَ يكون العمل على الكبائر صعبًا؟ أحد الأسباب يكمن في أنك ربما لن تحصل على مكافأة في المستقبل القريب لقاء عملك. فإن عملت على شيءٍ يمكنك إتمامه في يوم أو يومين، يسعك أن تتوقع شعور الإنجاز الرائع قريبًا؛ بينما إن كانت المكافأة مؤجلة إلى أجل غير مسمى، فستبدو أقلّ واقعية مما لو كانت قريبة. 

يُعد الخوف من تضييع الوقت سببًا آخر لعدم عمل الناس على مشاريع كُبرى وهذا مدعاة للسخرية، فماذا إن فشلوا؟ سيضيع كل الوقت الذي أمضوه في عمل المشروع هباءً (في الحقيقة، لن يفشلوا على الأرجح؛ فالعمل على المشاريع العظيمة غالبًا ما يُؤتي أُكُلَه).

لكن المشكلة لا تكمن في أن الكبائر لا تضمن الحصول على المكافآت مباشرةً أو احتمالية تضييعها لوقتٍ طويل وحسب. إذ لو اقتصر الأمر على ذلك، لكانت زيارة أقارب شريك حياتك أسوأ شيء. المشكلة تتخطي ذلك، فالمسائل الهامة تُعدّ مخيفة، وكأنها تسبب ألمًا جسديًا حينما تتعامل معها، فكأن مكنسة كهربائية موصولة بخيالك، تسحب كل أفكارك المبدئية مباشرةً؛ حيث لا تبقى لديك أية أفكار أخرى، ومع ذلك ما زالت المكنسة تمتص منك.

ينبغي ألّا تنظر مباشرة في صلب الكبيرة، بل عليك أن تتقدم نحوها بزاوية مائلة، لكن يجب أن تُعدل زاوية الرؤية لتصبح صحيحة: فخذ من المواجهة المباشرة ما يكفي لكي تلتقط بعض الإثارة المنبعثة منها، ولكن لا تقترب كثيرًا لئلا تصيبك بشلل. يمكنك أن تضيق الزاوية حالما تنطلق، تمامًا كالقارب الشراعي الذي يمكنه الإبحار قريبًا من الرياح حالما تهبّ.

إذا أردت العمل على مشاريع ضخمة، يبدو أن عليك أن تخدع نفسك لتقنعها بذلك. يمكنك العمل على مشاريع صغيرة بإمكانها أن تنمو لتصير كبيرة، أو تكبير مشاريعك تصاعديًا، أو تقاسم العبء الأخلاقي مع شُركاء. والاعتماد على مثل هذه الخدع ليس بعلامة على الضعف، بل قد أُنجزت الكثير من الأعمال العظيمة بمثل هذه الطرق.

عندما أتحدث مع الأشخاص الذين استطاعوا العمل على مشاريع ضخمة، أجدهم كلهم قد أجلوا الصغائر، ويشعرون بالذنب تجاه ذلك. لكني لا أظن أنهم ينبغي أن يشعروا بالذنب؛ فحجم العمل أكبر من طاقتنا. إن كان الشخص يعمل لينجز أفضل ما يمكنه إنجازه، فبالطبع سيترك الكثير من الصغائر، لذا يبدو الشعور بالسوء حيال هذا خاطئًا.

أعتقد أن “حل” مشكلة التسويف يكمن في جعل ملذّة العمل تجذبك، بدلًا من جعل قائمة مهام تضغط عليك لإنجاز ما فيها. اعمل على مشروع طَموح تستمع به حقًا، وأبحر قرب الرياح قدر ما تستطيع، وبهذا ستترك المهمات التي يصح تركها غير مُنجَزة.

 

 

المصدر

تمت الترجمة بإذن من الكاتب
أحدث المقالات
أحدث التعليقات
الأرشيف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *