للبيع: حيتان روسية متوحشة وقاتلة

ترجمة: Rawan Alhajri
أحاط القارب بقطيع من الحيتان القاتلة بينما كانت تلتهم الأسماك بسلام وأمان. وكان طاقم القارب قد تتبع مجموعة من الحيتان خلال الأيام القليلة الماضية دون أن يفلح في اصطيادها. و بعد عشر محاولات لإقنتاصها علم الصيادون أن هدفهم ليس بالفريسة السهلة. لذلك كان الطاقم صبوراً هذه المرة وظل يحيط بالحيتان حتى يهدأ روعها وتشعر بالرضا عما يدور حولها.
وما إن شعرت الحيتان بقدر كاف من السكينة حتى ألقى الطاقم الشباك لتلتف حولها، و قد كانوا يعلمون أن عددها يقترب من العشرين ما بين حيتان كبيرة وعجول. فيما حاولت الحيتان بشكل محموم السباحة داخل الشبكة التي أحاطت بها. وما هي إلا دقائق حتى وجدت الحيتان فرجة وأسرعت في الخروج متحررة من الشبكة.
تحركت الحيتان الكبيرة بإتجاه مؤخرة القارب وبدأت في الهروب من الشبكة بشكل مدهش حيث كان كل واحداً منها يقفز إلى الأعلى ثم يلتف على ظهره رأساً على عقب.
وروى أحد أفراد الطاقم وهو يكتب عن رحلة الصيد تلك. أنه في الوقت نفسه هرع أحد العجول إلى ظهر السفينة محاولاً إيجاد أي منفذ للهرب.
ومع أن الشبكة أصبحت فارغة بسرعة، إلا أن الصيادين أغلقوها. أحد العجول علقت إحدى زعانفه بين القارب والحبل الفولاذي في أعلى الشبكة. وقد شعر الغواصون الموجودون على ظهر السفينة بالخوف من الأركة حينما طُلب منهم أن يقفزوا إلى الماء لرفع ذلك الحيوان العالق إلى القارب مقابل مبلغ من المال. لقد تسمروا في أماكنهم حتى أرغمهم بعض أفراد الطاقم على فعل ذلك. وما إن رفعوا الشبكة حتى ظهر عجل آخر. كان عالقاً في أسفل الشبكة، ولكنه كان ميتاً. وأردف يقول: “لم نلحظ الحوت الثاني حيث إننا كنا مشغولين بالأول، ولم نلاحظ الآخر وغرق”. حينها لم يجدوا بداً من قطع الشبكة ورميها في المحيط.
ويُظهِر فيديو للواقعة حوتاً آخر عالقاً في الشبكة محاولاً الهروب. وبينما كان يضرب في الماء ويحاول الخلاص ويضرب برأسه في القارب إذ صرخ أحد الصيادين: إنه عالق, إنه عالق! سوف يموت ! فيما رد عليه آخر ببرود: هذا لا يهم، سنجد غيره.
وقد ترددت أصداء تلك الرحلة في العام ٢٠٠٣ لصيد الحيتان القاتلة قبالة ساحل شبه جزيرة كامشاتكا في أقصى شرق روسيا في أرجاء المحيطات. (يذكر أن أول رحلة صيد في المياه الروسية كانت لأغراض تجارية). في السبعينيات الميلادية الماضية، امتلأت أحواض الأسماك من فانكوفر في كولومبيا البريطانية إلى أورلاندو في فلوريدا إلى مكسيكو سيتي بحيتان الأركة التي تم اصطيادها في مياه أوروبا وشمال أمريكا. وتستميل الأركة كغيرها من الحيوانات البحرية الضخمة الجمهور الذي يدفع مقابل الفرجة ولكنه في الوقت نفسه لا يفكر إلا قليلاً . كيف عاشت هذه الحيوانات وأن استعراضها أمام الحشود قد لا يبعد الملل عنها. وفيما يبدو فإن هذا الشعور العام قد بدأ يتغير. ضد حقبة الصيد أولاً وبعد ذلك ضد حبس الحيتان وذلك بالاستعانة بالفلم الوثائقي الأمريكي “كيكو”: القصة المسكوت عنها في عام ٢٠10 وَ”بلاك فيش” في ٢٠١٣.
تبقى الحيتان في الغرب رهينة الأسر وقد ظلت المرافق مفتوحة طوال السنوات القليلة الماضية. وفي روسيا والصين (التي تشتري الحيتان من روسيا) تظل أكثر المرافق مفتوحة. وذكر نعومي روز عالم الثدييات البحرية في مؤسسة رعاية الحيوان في واشنطن دي سي: “أن عامة الناس في الصين وروسيا لا يواكبون إحساس الغربيين تجاه الحيوانات. إنهم متخلفون عن ركب العالم الغربي بما يقارب ٤٠ إلى ٥٠ سنة”.
يتم صيد الحيتان القاتلة في بحر أوخوتسك وما جاوره من المياه قبالة كامشاتكا بطريقة أكثر حضارية من أقرانهم ومع ذلك فإنها تقضي عليهم.
في الصين، يرتفع نشاط مدن الملاهي المائية. تقرير نشره تحالف الصين لحماية الحيتان بعنوان: “مدن ملاهي المحيط: نظرة من الداخل للنشاط الصيني المزدهر لصيد الحيتان” فإن لدى الصين ٣٩ مدينة ترفيه مائية بها ٤٩١ من الحيتان من إحدى عشرة فصيلة مختلفة وتعمل الآن على بناء أربع عشرة مدينة أخرى. ويقول إريك هويت، مساعد مدير مشروع المحافظة على الحيتان في أقصى شرق روسيا (فيروب) وباحث في مجال المحافظة على الحيتان والدلافين في المملكة المتحدة: “إن الصينيين لا يصيدون الأركة ولكنهم مستعدون لدفع الكثير من أجلها”. تقدر تكلفة حوت الأركة بمليون دولار على أقل تقدير وهو سعر يمنح الحيتان الروسية حافزاً أكثر من اللازم.
في عام ١٩٩٩ وبعد أن أنهى هويت بحثه في المحافظة على الحيتان والدلافين بدأ مشروعه “المحافظة على الحيتان في أقصى شرق روسيا” (فيروب) بالتعاون مع كل من: مساعده أليكساندر بوردين والباحث الياباني هال ساتو. بدأ هويت مشروع تجربة بحثية على الأركة التي تقطن الشمال الغربي للمحيط الهادي وهو مالم يتم دراسته من قبل قط. أحضر هويت علماء روسيين على متن السفينة ثم دربهم على التعرف على الحيتان من خلال التصوير الفوتوغرافي وبعض التقنيات الأخرى.
تعتبر مراقبة عملية صيد الحيتان من أي نوع أمراً بالغ الصعوبة في روسيا. وتعد شبه جزيرة كامشاتكا والتي تحتل مساحة قدرها ٣٧٠،٠٠٠ كيلو متراً مربعاً مرتعاً للحيوانات البرية بالدرجة الأولى. وإذ تحيط بها المياه من ثلاث جهات (المحيط الهادي من الشرق وبحر أوخوتسك من الغرب وبحر بيرينق من الشمال الشرقي) فلا يمكن الوصول إلى شبه الجزيرة إلا بالطائرة أو القارب أو المروحية. وقد عرفت كامشاتكا تاريخياً بقلة سكانها وثرائها بالحياة البرية والسمكية وكون صيد الحيوانات والأسماك جزءاً من حياة سكانها. اليوم يعد صيد الحيتان مخالفاً للقانون في روسيا عدا القبائل الأصلية التي تقطن الشريط الساحلي لبحري شوكشي وبيرينق. تسمح التنظيمات الحكومية بصيد الحيتان للأغراض العلمية والثقافية والتعليمية بقدر معين. ووفقاً لـ”فيروب” فإن الهيئات التنظيمية في الغالب تتجاهل الحصص المقدرة التي توصي بها المنظمة والنصائح المبنية على الحقائق العلمية التي يقدمها علماء الثدييات المائية. في الماضي عندما لم تمنح هذه المنظمة أي حصة فإن المديرين في مركز المحيط الهادي البحثي لصيد الأسماك ومعهد روسيا الفيدرالية البحثي لصيد الأسماك وعلوم المحيطات. الذين ينظرون إلى الثدييات المائية بما فيها الحيتان على أنها موارد مصائد الأسماك يسمحون بالصيد بما يقارب عشر مرات.
اليوم تؤدي ثلاثة من حيتان الأركة عروضاً في الحوض المائي الجديد في موسكواريوم في موسكو الذي تم افتتاحه في ٢٠١٥. وقد أرسلت الأركة الروسية إلى مدينة الملاهي المعروفة بـ” مملكة محيط شيميلونق” وهي إحدى أكبر أحواض الأسماك في العالم في مدينة تشوهاي بمقاطعة هونان الصينية. قدم حوتان عرضاً في عام ٢٠١٣، وخمسة أخرى في عام ٢٠١٤، واثنين في ٢٠١٥ وبعد ذلك أتيحت مؤخراً لعامة الناس في فبراير. وبحسب روز فقد “ظل بعض الحيتان غير مرئي على مدار سنتين قبل أن تتاح للعرض أمام العامة. الأمر الذي أقلق الناشطين في مجال حقوق الحيوان في العالم كله ظناً منهم أنها ماتت أو غير قادرة على التكيف مع الاحتجاز”. ولحسن الحظ فقد كانت الحيتان جميعاً حية. ويواصل روز حديثه قائلاً : “وبالطبع على افتراض أن تلك الحيتان التسعة هي نفسها الحيتان الأصلية وهذا ما لا يمكن تأكيده”.
سيكون من الصعب على عامة الناس أن يتفهموا المصير الحقيقي للأركة في غمرة التسلية دون جهود تعليمية في البلدين. ربما يكون الغربيون أعلم من غيرهم في الآونة الأخيرة بأخلاقيات احتجاز الحيتان. وعلى مدى التاريخ فإن فهم الإنسان – في شريعة القديسين الغربيين على الأقل- لهذه المخلوقات وسلوكها لم يكن سوياً بشكل كبير؛ حيث تسود بعض المعتقدات من قبيل أنها وحوش أو حيواناتٍ كريهةً بالنظر إلى ما ينسج عنها من قصص أو عدوة أكثر من كونها أليفة أو معتدية أكثر منها ودودة. ولعل من المفارقات أن الأسر ساعد إلى جانب التعليم على تغيير التصورات.
كان حوت “الأوركة” أقل حظورة من الثدييات الأخرى كالدلافين, لكسب الحب والمودة من البشر. ومن المثير أن بعضاً من فئات الأركة تلتهم الدلافين في حين أن البعض الآخر لا يأكلها، غير أن العلم الحديث جعل الحيتان والدلافين معاً من طائفة الدلافين المحيطية. وتأتي الأركة في قمة الحيوانات المائية المفترسة حيث يصل أكثرها طولاً إلى ١٠ أمتار وتزن حوالي ١٠ أطنان وتلتهم يوميا ما يصل إلى ١٣٠ كيلو جراما من السمك، كما أنها تطارد فريستها بسرعة تصل إلى ٥٠ كيلو مترا في الساعة. ويرى أسلافنا أن هذه المخلوقات حيواناتٍ بحريةً قاتلةً فكلمة “أوركا” تعني حوت في حين أن كلمة “أوركينوس” تشير إلى عالم الموتى.
وقد تعقب هويت في كتابه: “الحوت: المسمى بالقاتل” مخاوف الناس من هذه الحيوانات منذ القدم وحتى العصر الحديث. فالدلافين الإغريقية الأليفة لم تكن أحب من الدلافين التي تأكل الأركة. وقد كتب عالم الطبيعة الروماني بليني إيلدر عنها باعتبارها غاية في الافتراس وواصفا إياها بأنها: ” عدد كبير من الأحياء المسلحة بأسنان ضارية”. خلال القرون الوسطى، كانت حيتان الأركة ترى بأنها وحوش البحر. ففي عام ١٨٦٢ قام العالم الدانماركي دانيال إف إسكريكت المتخصص في علم حدائق الحيوانات بفحص محتويات بطون حيتان الأركة مدعياً أنه وجد أجزاءً من ثلاثة عشر من خنازير البحر وأربع عشرة فقمة. ولاحظ هويت أن صيادي الحيتان ذكروا أنهم شاهدوا عدداً من حيتان الأركة تهاجم حيتان أخرى وتعضها مع أنها تفوق حجمها في الغالب. وذكر عدد من العلماء الذين كانوا على متن سفينة لصيد لحيتان أنهم وجدوا في أحشاء الأركة من كل أنواع الحيتان. وتعزز هذه الروايات التصور القائل إن الحيتان حيوانات مفترسة وجشعة.
والآن، يختلف البرنامج الغذائي والسلوك والروابط فيما بين حيتان الأركة تبعاً للفئة التي تنتمي إليها والبيئة التي تعيش فيها. فالأركة في كامشاتكا تصنف على أنها مجموعتان متميزتان كتلك التي تعيش في الشمال الشرقي للمحيط الهادي وهناك الحيتان المقيمة وهي تلك الفئة التي تربطها ببعض علاقات وطيدة وتتغذى على الأسماك غالباً. وهناك أيضاً الحيتان المهاجرة التي تهاجر بطريقة تجعلها تقترب من الشواطئ الصخرية. والروابط بين الحيتان قابلة للتغير وهي تتغذى بشكل أساسي على الحيوانات الثديية المائية بما فيها الفقمات وخنازير البحر والدلافين وأسود البحر. ويصنف نوعا الأركة كلاهما من النوع نفسه في الوقت الحالي. كانت هناك دعوات لتصنيف كل منهما من نوع مختلف ولكن أي تغيير كبير سيتطلب فحصاً عميقاً لمجموعات الأركة حول العالم. لايزال هناك الكثير مما ينبغي تعلمه عن خصائص الحيوانات وسلوكها وهو ما يعمل فريق “فيروب” عليه جاهدا في كامشاتكا.
في كل صيف يغادر أعضاء مجموعة “فيروب” منازلهم في موسكو وسانت بطرس بيرق ومدن أخرى وييممون وجوهم شطر السواحل الشرقية الروسية. حيث ينصبون مخيمهم البحثي في خيام برية كبيرة تتسع سررهم وطاولاتهم ومعداتهم. وخلال شهري يوليو و أغسطس, يغامرون بالخروج على متن قوارب مطاطية في بحث عن قطيع الأركة. تقول أولقا فيلاتوف إحدى أعضاء فريق “فيروب”: إن الفريق يعرف الحيتان من خلال رؤيتها أو على وجه التحديد من خلال شكل زعانفها والبقع التي تقع خلف الزعانف وكذا من خلال الندوب والشقوق التي تراكمت على مر الزمن. تبدي تلك المخلوقات تسامحاً تجاه فحص العلماء لها وهو ما قالت عنه فيلاتوف: “لا نعلم ما إذا كان سبب ذلك أن الأركة اعتادت علينا أو أننا أصبحنا نتعامل معها بشكل أفضل دون أن نضايقها”.
الثدييات الاجتماعية التي تعيش وتتنقل في مجموعات كالأركة تصيد وتأكل وتتفاعل اجتماعياً مع بعضها البعض. وتذكر فيلاتوف أنه قبالة سواحل كامشاتكا (كما في الساحل الشمالي الشرقي للمحيط الهادي) تقود الأنثى الأقدم قطيع الحيتان المقيمة فيما تبقى العجول مع أمهاتها مدى الحياة. وتواصل الحديث قائلة: “عندما تموت الأمهات الكبيرات فإن بناتها يقمن بدورهن في الرعاية فيما تنقسم العائلة القديمة”.
يضع العلماء غالباً أوجه تشابه بين البشر والثدييات المائية وخصوصاً من حيث تعلم الجانب الاجتماعي الذي يعد جزءاً مهماً في محيط الأركة. وقد اكتملت التصورات التي وضعتها فيلاتوف وزملاؤها من خلال ملاحظة الحياة فيما وراء روسيا عن طريق العمل المخبري ويتضح ذلك بشكل ملحوظ فيما قامت به لوري مارينو الباحثة في علم الأعصاب التي شاركت في أحد البحوث الرائدة في التعرف على الدلافين والحيتان.
وتعد مارينو الباحثة في جامعة إموري في أتلانتا- جورجيا على مدار تسعة عشر عاماً خبيرة في سلوك الحيوان وذكائه. وقد تقصّت في بحثها دماغ الحوت بعد الوفاة.
عندما يموت حوت كالأركة مثلاً ويرتمي على الشاطئ أو يموت في حوض مائي تقوم مارينو بحفظ دماغه في غاز “الفورمالديهايد” حتى يفقد ترابطه الجيلاتيني ويتصلب بالقدر الذي يسمح بوضعه في جهاز الرنين المغناطيسي. تستخدم مارينو الرنين المغناطيسي لتقسيم الدماغ بشكل دقيق لتستطيع بعد ذلك مشاهدة أجزائه وموقع كل جزء وأوجه الترابط فيما بينها. ونتيجة لذلك فقد وضعت مارينو الفرضيات وخلصت من ذلك إلى وظائف دماغ الأركة كالتواصل والتصورات بل حتى المشاعر.
دماغ الأركة كبير وأكثر تعقيداً في بعض الجوانب من دماغ الإنسان. حيث يبلغ معدل وزن دماغ الإنسان ١٣٠٠ جرام بينما يزن دماغ الأركة حوالي ٥٠٠٠ جرام. وفي العام الحالي اكتشف فريق مارينو البحثي أنه على العكس من البشر الذين يملكون نظاماً سمعياً واحداً في الدماغ فإن الدلافين لديها اثنان: تستخدم أحدهما لتحديد الموقع من خلال الصدى بينما تستخدم الآخر في بعض صور التواصل الأخرى. وتعتقد مارينو أن حوت الأركة لديه في الغالب نظام صوتي ثانٍ مشابه أيضاً.
من الممكن أن تتطلب احتياجات الأركة بنية دماغ أكثر تعقيداً من الإنسان. وإذا ما قارنّاه بنا فإن فصوص شحمة أذنه الواقعة إلى جانب الجهاز الجوفي والتي تعد بمثابة مركز التحكم في المشاعر متطورة جداً. وأضافت مارينو: “ذلك يعني لنا أن لدى الأركة مشاعر جياشة، وتتحكم في جميع العلاقات بين أفراد العائلة كالأم وعجلها، كما تلعب دوراً في قوة الروابط بين أفراد القطيع”. ربما تمر الأركة -شأنها شأن المخلوقات شديدة العاطفة- بتجارب عاطفية بمستوى مختلف عما نحن عليه. وتنم تصرفاتها مع بعضها البعض عن روابط اجتماعية قوية أكثر مما بين البشر. “من السهل أن تجد أن دماغها يتسع للمشاعر بطريقة قد لا تجدها بين البشر بالضرورة”.
ومن المعروف أن الجهاز العصبي لدى الأركة هو أكثر الأجهزة العصبية تعقيداً على وجه الأرض. حيث تنخرط القشرة الدماغية في مستوى عالٍ من المعرفة كالوعي الذاتي، وحل المشكلات والذكاء. تقول مارينو: “عندما تنظر إلى دماغها وخصوصاً القشرة الدماغية فـإنك تجد أنها أكثر التفافاً من دماغ الإنسان”. ومن الواضح أن شيئاً ما في نشأة تلك الحيوانات في السابق قد استدعى مثل هذا البعد المعرفي.
وعلى وجه العموم، فإننا نميل إلى القول بأن الحيوانات أدنى مستوى منا على الصعيد الثقافي والفكري تقول مارينو: “ولكن الخطأ الذي إرتكبناه هو أننا وضعنا أنفسنا معياراً، فإذا ما وضعنا الإنسان أداة لقياس ذكاء الحيوانات فستكون الحيوانات هي الضحية لأنها ليست من البشر. ولو قامت الحيتان بتقييم البشر لما بلغ أحد منهم مستوى ذكاء الحوت قط”.
في أعقاب الصيد الجائر في عام ٢٠٠٣، توقف صيد الأركة في أقصى شرق روسيا لمدة طويلة من الزمن. غير أنه عاد من جديد في عام ٢٠١٢. وقد أخذ أحد صيادي الأركة أنثى صغيرة تدعى “نارنيا” من بحر أوخوتسك إلى أحد المرافق في ناخودكا (ميناء يقع في الجنوب وهو قريب إلى حد ما من كوريا الشمالية). وبعد عام تم اصطياد حوتان صغيران: ذكر وأنثى، وأنثى كبيرة لربما كانت أمهما في المكان نفسه وأصبح الثلاثة إلى جوار نارينا في محبسها في ناخودكا. وقد رفضت الحيتان الثلاثة حديثة الوصول الأكل في بادئ الأمر، إلا أن بعض من كان يلاحظها رصد نارينا وهي تحضر لها السمك وتحاول إقناعها بأن تأكل؛ تماما كما لو أن سجيناً يساعد سجناء آخرين.
وقد انتهى المطاف بنارينا إلى حوض موسكواريوم وكان من المفترض أن يرسل الصغيران الآخران إلى الصين بالرغم من صعوبة التأكد من المعاملات الورقية. وفي حين أن الآراء متباينة حول توقيت وصول الحيتان إلا أن الجميع متفقون أن مرفق شيميلونق به تسعة من حيتان الأركة حالياً. خلال الرحلة كانت الحيوانات تحبس في خزانات لا يمكنها فيها التحرك. وبحسب ممثل لتحالف مجموعة صيد الحيتان في الصين فضل عدم الكشف عن هويته فقد كانت الطائرات وسيلة النقل الرئيسة وإن كانت الشاحنات باتت تستخدم غالباً. ويواصل قائلاً: “تقع بعض الأحواض المائية في الجنوب الغربي من الصين وتستغرق الرحلة ما بين أربعة إلى خمسة أيام”. ويذكر أوكسانا فيديروف مؤسس مجموعة الناشطين لحماية الدلافين التي تعنى بمراقبة جميع الدلافين والأركة والحيتان البيضاء المحتجزة في روسيا أنه “في الوقت الذي كان فيه الحوض المائي في موسكو قيد الإنشاء كانت “نارينا” و”نورد” تعيشان في صهاريج مياه صدئة (من الخارج على الأقل) لمدة أشهر حتى تم تجهيز مكانها. التي تراقب جميع الدلافين الأسيرة والحيتان القاتله, و بيلوغاس في روسيا. أما الثالث ويدعى مالفينا فقد تزامن وصوله مع الافتتاح الكبير، وقد سميت مؤخراً ب”جولييت”.
يشكل صيد الحيتان من أجل العروض -الذي يمقته الغربيون-
تهديداً بالغ الخطورة: إنه الانقراض. وتعد الأركة التي تعبر شرقي روسيا أكثر الأنواع المهددة بالانقراض لقلة عددها مقارنة بالحيتان المقيمة هناك إضافة إلى سهولة اصطيادها لكونها تقترب من الشواطئ بحثا عن الغذاء. وبالرغم من وجود الآلاف من حيتان الأركة في شرقي روسيا إلا أن عددا قليلاً لا يتجاوز المئات منها مهاجرة. ولا يختلف الحال بين النوعين تقول فيلاتوف حيث يتم اصطياد الجميع مما يعني أن المجموعة كاملة ربما تنقرض مالم يُمنع الصيد.
بعض الثدييات المائية الأخرى كالأركة المقيمة والبيضاء غير مهددة بالانقراض إلا أنها تواجه مصيراً مشابهاً حيث الكثير والكثير من الأحواض المائية قيد الإنشاء معظمها وبشكل لافت في الصين. تشكل الحدائق والعروض المائية عامل جذب شيق. إلا أن معظم الناس من المفتونين بحب تلك المخلوقات لا يدركون معاناة الحيوانات. لقد صورت الأخبار مرافق التدريب على أنها مؤسسات توفر العناية كما صورت الثدييات المائية وكأنها سعيدة وأن وصولها حدث احتفالي.
يقول ممثل مجموعة تحالف صيد الحيتان: “عامة الناس في الصين لا يدركون جيداً معاناة الثدييات كما كان عليه الحال في العالم الغربي في الثمانينيات الميلادية” ويضيف قائلاً إن مؤسستهم تسعى لتثقيف الكبير والصغير بتلك المشكلة. وتردد فيديروف القول بأن “علينا تغيير نظرة العامة إذا ما أردنا تغيير الواقع وهذا ليس بالأمر السهل. لقد ظللت أسأل نفسي ولوقت طويل: ما أفضل طريقة لنشر الوعي؟ وكنت أصل دوماً لإجابة واحدة وهي أن علينا أن نملك مصادر كافية للعمل مع جماهير مختلفة , كما تقول. إذ إنه من المهم أن نعمل على توعية الكبار والصغار في الوقت نفسه وخصوصاً في روسيا حيث الأغلبية هناك لا يعلمون الحقيقة”. وتضيف ” أن في السنوات القليلة الماضية كان لدى مؤسسة المحافظة على الدلافين’ فرصاً لتبني الحيتان المحتجزة ولكنها بقيت مكتوفة الأيدي. “لا نجد مكانا كمراكز التأهيل يمكن أن نأخذها إليه”. لقد بدأت المجموعة العمل على إنشاء مركز تأهيل للثدييات المائية.
وعلى ما يبدو في عام 2016 ,فإن فئة الأركة المهاجرة في روسيا قد تجنبت الكارثة. نشرت هويت على حسابها في الفيس بوك أنها ربما تضمن ذلك في كتاب روسيا الأحمر الذي يضم قائمة من الحيوانات المهددة بالانقراض وفقا لما جاء في مشروع نسخة وزارة الموارد الطبيعية والبيئة في روسيا الفيدرالية. وكتبت هويد “لابد لهذه النسخة أن تعتمد بشكل نهائي من قبل الحكومة وفيما لو تم ذلك فلن يعود بالإمكان صيد الأركة المهاجرة لأغراض تجارية”. فيديروف لديها منظور عملي على ذلك.فإذا ما ضمّنت الحكومة الأركة المهاجرة في الكتاب الأحمر فإن
ذلك سيساعد على إيقاف الصيد المشروع. وذكرت فيديروف أن المشكلة الوحيدة أنه لا أحد يراقب الصيد واذا لم يكن هناك سيطرة على المكان, فإن الروسيين سيقدمون تصريحات مزورة.
تعتقد فيديروف أن التغيير الحقيقي سيكون حين يتوقف العامة عن التعالي على حدائق التسلية المائية (وذلك بعيد المنال). وتم بناء مراكز إعادة التأهيل والرعاية وتتوفر البيانات العلمية الكافية التي تثبت الحاجة إلى المحافظة على الحيتان في المياه الروسية ولكن لا يزال الطريق طويلاً أمام امر كهذا.
لقد بدأ المستقبل الواعد للحوت أبعد ما يكون في فبراير من العام الحالي.حيث علمت فيديروف أن الأركة
الروسية أضيفت إلى ‘الكتاب الأحمر’ وهي في طور الاعتماد النهائي غير أن الصيد لازال مسموحاً به في الوقت نفسه. ففي العام الحالي ارتفعت حالات الصيد إلى عشر حالات في حين تراجعت إلى الصفر في نوفمبر من العام الماضي. أعلن “تينرو” أنه سيتم مراجعة الحالات العشر مركز صيد الأسماك البحثي في روسيا و المحيط الهادي . وهو ما أكده حديثاً المؤتمر الصحفي في فلاديفاستوك والذي نشرته هويت عبر حسابها في الفيس بوك في فبراير هذا يعني أن مزيداً من الحيوانات في طريقها إلى أن تفقد عائلاتها من أجل عروض السيرك لإمتاع الناس. لقد آن الأوان لإيقاف العروض.”
يبدو أن العرض مستمر الآن. فبعد أيام قليلة في الرابع والعشرين من شباط/ فبراير ظهرت الحيتان القاتلة للعلن للمرة الأولى.
المصدر:
أحدث التعليقات