هل جميعنا بحاجة لبعض الوقت كي نجلس فيه ونفكر؟

تدقيق:
مراجعة: محبرة
هل فكرت جيدًا مؤخرًا؟
هل من الصعب أن نجلس لنفكر فقط؟ غيرآبهين بما لدينا من أعمالٍ غير منجزة، أو بمواكبة الجديد من الأحداث؟
فلسفة جديدة! توقف، اجلس وفكر فقط. هذا ما كتبته على لوحة بيضاء وضعتها بالقرب من كرسي صغير قابل للطي، واضعًا إياه قرب مدخل مكتبي في سيتي، جامعة لندن.
جُلت أرجاء لندن لمدة أسبوع حاملًا كرسيّين قابلين للطي ولوحة بيضاء، وكنت أتصيد الأماكن المكتظة بالأغبياء، كسوق لندن للأسهم -وهو بنك كبير أنقذه دافعو الضرائب-، وكمجلس البرلمان، وشارع أكسفورد، وكثدرائية القديس باول، ومقر البي بي سي، ولكن الوقت قد حان لنعكس الغباء الأقرب للمنزل؛ لذلك وضعت الكرسيين خارج جامعتي.
مَرّ الطلاب وأساتذة القسم والمسؤولين عنه ورأوا الكرسيين، نظروا إليّ وقرؤوا لافتتي، بدا البعض منهم مندهشًا، والبعض الآخر التقط صورةً بهاتفه الذكي، ضحك الكثيرون ولكن القليل منهم فقط انضم إلي في جلستي تلك بالتأمل لبضع دقائق.
من المفترض أن تكون الجامعات مكانًا للتعلم، ومحركات للاقتصاد المعرفي، ولكنني أدركت بعد عقودٍ من دراسة المنظمات المتسمة بالغباء الشديد أن أغلب الجامعات هي بيوت المعرفة لذوي السلوك الأحمق.
أنا كبروفيسور عندما أطلب من زملائي من جامعاتٍ مختلفة أن يصفوا لي جامعاتهم فسيكون مصطلح ’الغباء‘ أكثر الكلمات تكرارًا، وقد تعطي القصص التي يتشاركها زملائي عن الجامعات البريطانية قيمة لمقالةٍ في صحيفة من عدة صفحات أكثر من نصٍ تعليمي. وسمعت عن جامعةٍ حكومية ضخمة أنفقت عشرات الملايين بغرض تطوير جامعة خاصة يرتادها عددٌ قليل من الطلاب، وعَبّر مُحرّري عن رأيه بقصة عن جامعة آيفي ليج في الولايات المتحدة التي أنفقت 25 مليون دولار لإطلاق شبكة معرفية على الانترنت سُميت بـ “فاذوم”، والتي اُغلقت بعد ثلاث سنوات. وتتحدث قصتي المفضلة عن أكثر الخبراء شهرة على مستوى العالم في الاستخبارات الذي أصبح رئيسًا لجامعة الولايات المتحدة، وسرعان ما أنفق أكثر من مليون دولار على تغييراتٍ إدارية. وخلال فترة توليه لمنصبه قام بتشتيت الكلية بتأسيسه لمشاريع خاصة، وإصراره على ارتداء ملابس بنية في حرم الجامعة أيام الجمعة.
كلما تمعنت أكثر اكتشفت أن الجامعات عادةً ما تستثمر الوقت والجهد والموارد في جميع أنواع المبادرات التي لا فائدة منها، وتخلق هذه المبادرات حالة من الفوضى في الإدارة، وتجعل أسهل المهام غير فعالة. تقوم جامعات اليوم بإعادة إحياء اسمها عبر حملات تنظمها لتصبح أكثر تميزاً عن قرنائها، ومع هذا فإنه لايمكن التفريق بينها وبين البقية. وإن ألقيت نظرةً متمعنة على أي موقعٍ جامعي فستجد نفس النمطية في الأبحاث الرائدة والمستوى العالمي في التدريس والذي له صلة بالعالم الحقيقي، وسترى أيضاً الصورة النمطية لثلاثة طلاب يتسكعون، فتاة واحدة وشاب ملوَن وشاب ذو بشرة بيضاء مستلقين على العشب الأخضر، وقد تُغامر جامعاتٌ ذات تعليم أعلى بإضافة شابين يلعبان الصحن الطائر في خلفية الصورة، فلا فارق بين الكليات في شتى أنحاء العالم بما يتعلق بحملات التجديد. وضعت جامعة في بافلو صورة لمباني الجامعة كُتب عليها عبارة “هكذا”، وعلى بُعد 9,000 م وضعت جامعة سيدني صورة مشابهة لمباني قديمة كُتب عليها “هنا”.
في كثير من الجامعات هناك حقيقةٌ بسيطة، وهي أنّ تبنّي القطاع التجاري لمثل هذه الأعمال، بالنسبة لأي رئيس هو سبب كافٍ ليخوض هذه التجربة، وهذه الطريقة تُبقي الاستشاريين نشطين في مجال إدارة البيع، ولكن عادةً ما تترك ترسبات من الإجراءات والأنظمة التي يفهمها القليل ولكن لا أحد يعتقد أنها ذات فعالية. تدعم اليوم الجامعات الثقافاتِ التي تشجع الكليات على العمل لأوقاتٍ متأخرة من الليل في كتابة التقارير العلمية والأبحاث التي سيقرؤها عددٌ قليل من الخبراء المختصين، ولكن لا يشجعون على قضاء بعض الوقت في التفكير إلا ما ندر.
آملُ أن يحث هذا الكرسي الطلاب والأساتذة ليفكروا ولو لمرةٍ واحدة، عددٌ قليل من زملائي شاركني جلستي بصمت، وقال أحدهم: “من الجميل أن تكون قادرًا على التفكير”، وذكر آخر: “لقد قضيت معظم يومي في مراجعة الأبحاث التي لا فائدة منها، إن هذا لفي غاية الغباء”، وقال لي آخر: “يذكرني هذا بجلستي في بيتي الصيفي في فنلندا، فهناك أقضي وقتي في التفكير”.
إننا نعيش اليوم في بيئةٍ منعدمة التفكير، فقد وجدت استبيان “ذا أميركان تايم سيرفاي” أنه بالرغم من أن 95% من المُجيبين قالوا بأنهم قاموا بنشاطٍ ممتع خلال الـ 24 ساعة الماضية، ولكن 84% منهم لم يقضوا أي وقتٍ في الاسترخاء أو التفكير على الإطلاق. ووجدت دراسة أجراها باحثون في جامعة هارفرد أنه خلال قيامنا بأمرٍ معين تكون عقولنا مشغولة بالتفكير بأمرٍ آخر -ما يُسمى بـ “شرود الذهن”، وهذا ما يجعلنا أقل سعادة. وفي دراسة حديثة في جامعة فرجينيا طلب علماء نفسيون من الأشخاص الخاضعين للدراسة أن يجلسوا في غرفة ويفكروا من 6 إلى 15 دقيقة، وكان هناك زرّ يُمكنهم من صعق أنفسهم في حال أرادوا ذلك، فوجد الباحثون أن معظم الأشخاص فضلوا صعق أنفسهم عوضاً عن أن يجلسوا بهدوء ليفكروا! أحد الأشخاص قام بصعق نفسه 190 مرة خلال هذه الفترة القصيرة.
وقد ثبت أن الغالبية العظمى من الأجهزة الإلكترونية التي تحيط بنا هي خير حليف للخوف من التفكير. قبل عقدٍ أو اثنين، كانت تحمل حياتنا اليومية أوقاتٍ قليلة من الانتظار، مثلاً عندما نصطف في طابور، أو عند التنقل في المواصلات العامة أو حتى عند انتظارنا لصديق، فلا نجد سبيلًا خلال هذه الأوقات سوى الغرق في أفكارنا، ولكن اليوم بات أول ما يفعله الناس عندما يضطرون للانتظار هو اللجوء لهواتفهم الذكية. ووجدت دراسة قامت بها وكالة هاريس التفاعلية -أبحاث السوق- في 2013 أننا نستخدم هواتفنا الذكية أثناء المشي في الشارع، وخلال مشاهدة الأفلام، وفي أماكن التعبد، واعترف 12% باستخدامهم لهواتفهم أثناء الاستحمام، و9% تفقدوها خلال ممارسة الجنس!
يستغرق الموظف 25 دقيقة لكي يعود لرأس عمله في حال قاطعه أحدهم. تشتت الذهن المستمر يعيق الاستيعاب. أشارت دراسة أنه يقل معدل الذكاء لدى الأشخاص بمعدل 10 نقاط عندما تتشتت أذهانهم بشكلٍ مستمر بمعلومات من لحظة إلى أخرى، ويُسبب هذا تدهورًا في معدل الذكاء ضِعفَ تأثير تدخين الماريجوانا! فالمزج بين استخدام الأجهزة الإلكترونية والقيام بالأنشطة، كالعمل أو اللعب مع الأطفال أو ممارسة الجنس، يؤول إلى تشتيت الذهن ما بين عدة مهام، ومع أن البعض يظن نفسه بارعًا في أداء عدة مهامٍ في آنٍ واحد إلا أن الحقيقة عكس ذلك تماماً. فقد وجد علماء الأعصاب أنه لا أحد -بالمعنى الحرفي للكلمة- يستطيع القيام بعدة مهام في آنٍ واحد. وناقش آدم غازالي ولاري دي روزين في ’Distracted mind (2016)’ أن تنقل الأشخاص بين مهامٍ مختلفة يخفض جودة أدائهم لكل مهمة. ووجدت دراسة تجريبية أجراها اليساندرو كويستي وإيال بيير في جامعة كارنجي ميلون أنه عندما يُقاطَع الطلاب أثناء أدائهم للاختبار فإن أداءهم ينخفض بمعدل 20%.
إن المؤسسات كثيفة المعرفة مليئة بالملهيات التي تعيق التفكير؛ كالاجتماعات المتزاحمة، المكالمات الهاتفية، الرسائل وأسئلة الزملاء. كل هذه الأمور تُعيق الفرصة للتفكير. وكما أن المكاتب المفتوحة بعضها على بعض هي الأسوأ على الإطلاق؛ لكونها مليئة بجميع أنواع الملهيات، ابتداءً بزميل ثرثار وانتهاءً بمديرٍ متطفل، مما يدفع الموظف إلى تبديل المهام مرارًا وتكرارًا. ووفق دراسة أجرتها جلوريا مارك في جامعة كاليفورنيا – آرفين، وجدوا أن الموظفين يبدلون المهام كل 11 دقيقة، ولكن يستغرق الموظف 25 دقيقة لكي يعود لرأس عمله في حال قاطعه أحدهم. إن الإحصائيات مخيفة!
وجدت دراسة “(progress principle (2011” أجراها ستيفن كرامير وتيريسا أمابيل في كلية هارفرد للأعمال، أنه إن أردت أن تصل إلى يوم عملٍ مثمر ما عليك سوى تخصيص وقتك للتركيز على عملٍ مهم وإحراز التقدم فيه، فبوجود الملهيات نُصب أعيننا أصبحنا بحاجة ماسة لبعض الوقت للتفكير.
تساءلت يومًا: كيف يبدو المكان الذي يلجأ إليه الناس عندما يريدون التفكير؟ فتصورت لودوي ويتينسن جالسًا على كرسي في غُرَفِهِ التي بالكاد يوجد بها أي زينة في كامبردج، هكذا بدأتُ تجربتي في الفلسفة الجديدة، فأردت أن أعطي الناس فرصة ليُصفّوا أذهانهم، وحتى إن كان ذلك لخمس دقائق فقط.
جلست وقت الظهيرة على أحد الكرسيين اللذين وضعتهما في ساحة عامة خارج سوق لندن للأسهم ومقابل بنك انجلترا مباشرةً، وكان يومًا غائمًا في أوائل أيام الخريف، لكنني كنت متوترًا؛ هل ستأتي الشرطة وتتهممني بتخريب الهدوء العام؟
تجمع حولي خلال خمس دقائق أول جماعة، وكان من بينهم امرأة أسترالية في منتصف العمر أرادت التحدث معي عن الإرهاب، وبعد ذلك انضمت إلينا امرأة انجليزية وبدأت بالتحدث عن ابنتها التي تدرس الفلسفة في الجامعة، وقالت: “إنها لفتاةٌ عميقة التفكير!” ، ورحلوا بعد خمس دقائق، وكان أغلب من حولي هم من موظفي الشركات المالية القريبة، فهذا وقت استراحتهم للغداء، وكانوا يلتهمون رقائق البطاطس تارةً، ويعبثون بهواتفهم الذكية تارةً أخرى، ويمر بعدها سائحٌ غريب الأطوار ليضحك ويلتقط صورةً لينشرها على موقع الفيس بوك في وقت آخر من هذا اليوم.
شعرت بتثبيط في عزيمتي، فما أن ظهرت فلسفتي الجديدة لأول مرة على العلن، إلا أن قابلها الناس بهذا التواضع، فحاولت أن أغرق في أفكاري مرةً أخرى، ولكنني سألت نفسي بماذا عساي أن أفكر الآن؟ هل أفكر بحال المدينة؟ أم بتصرفات موظفي المكاتب أثناء فترة راحتهم؟ أم بالرأسمالية التمويلية؟ تساءلت لو أن هناك زر يصيبني بصعقة كهربائية تنشط دماغي فهل كنت سأستخدمه؟ وانجرفتُ بتفكيري وأنا أشاهد الغيوم تتحرك بسرعة فوق المباني نحو الاستمتاع بالفراغ، وحين دقت الساعة الثانية ظهراً حملت الكرسي وتوجهت لمحطة القطار.
يبدو أن “التشمس تحت المطر” هو أفضل وصفٍ للسنوات التي قضيتها في دراسة النصوص الفلسفية.
حملتُ الكرسيين على متن قطار الأنفاق الصاخب، متأملاً بما خرجت به من تجربتي الأولى هذه، فشعرت بأن ضيقي بدأ بالتلاشي رويدًا رويدًا، ومع ذلك فقد أحسست بخيبة أمل لأن السياح هم وحدهم من انضموا إلي، فهل علينا أن نكون سائحين لنفكر قليلاً؟ وهل تُعتبر هذه رفاهية؟ كان سؤالاً مزعجًا بالنسبة لي، ولم أعد قادرًا على التفكير لعدة ساعات. وفي الوقت الذي كنت قد قررت فيه أن أتخلى عن رغبة التركيز على أمرٍ معين، راودتني فكرة واحدة فقط جعلتني أشك بكون هذه الفلسفة فاشلة كُليًا -سواء كان ذلك بسبب طبيعة الرأسمالية متعددة الجنسيات، أم الساعة في الساحةِ العامة- بدأ شرود الذهن تجربة في غاية المتعة.
عدتُ بعد أيام للمغامرة، فقد كنت تواقًا للمضي بفلسفتي الجديدة، وتوجهت برفقة صديقتي باربرا إلى كثدرائية القديس باول -وهي أهم كنيسة في لندن-، فتحنا الكرسيين وألصقنا لافتة كُتب عليها “توقف، اجلس وفكر”. جلست على أحد الكرسيين، أما باربرا فقد همت بالابتعاد قليلاً عن الأنظار لكي تراقب، وبدأ المطر بالهطول في غضون خمس دقائق، وسألتني فتاة صغيرة في عجلةٍ من أمرها: “لماذا تتشمس تحت المطر؟” ولكن لم يكن لدي جوابٌ على سؤالها، سحبها والدها ولكن سؤالها بقي عالقاً في ذهني، فبدا أن “التشمس تحت المطر” هو أفضل وصفٍ لسنواتٍ قد قضيتها في دراسة النصوص الفلسفية.
جُلت أرجاء لندن خلال أسابيع قليلة أثناء تجربتي للفلسفة الجديدة، جلست في شارع اكسفورد -أحد أزحم الشوارع في أوروبا وأكثرها تلوثًا-، أغلب المتسوقين تجاهلوني، والبعض الآخر سألني إن كنت أروج لعلامة ٍتجاريةٍ فاخرة، كان دعاةُ الدين هم الوحيدين الذين أعاروني اهتماماً، لعلهم رأوني منافسًا لهم!
لم أقابل خارج مقرات البي بي سي سوى حارس الأمن الذي كان في قمة ضجره ولديه الكثير من الوقت للتفكير. توجهت بعدها لمتنزه هايدي، حيث يوجد ساحة يتجمع فيها الناس ليناقشوا أي موضوع يمكن تخيله، يُشار إليها بـ “زاوية المتحدثين”، حيث جذبت الفلسفة الجديدة المارين هناك، ممن وجدوا في دقيقة الصمت فرصة للاستراحة من زخم الأفكار المتزاحمة. اقترب دخيل باحثًا عن فريسة، وقال باستنكارٍ واضح: “إن هذا لفي غاية الذكاء!”، وشرع يشرح كيف للافتة الفلسفة الجديدة أن تحوي رسالة شيطانية مخبئة، ولكنني لم أفهم ما يقصده.
ظننت أن الفلسفة الجديدة ستجد طريقها إلى قلب السلطة السياسية في وستمنستر، وضعت كرسيًا في ساحة البرلمان وبدأت أتخيل أن السياسيين العابرين سيقتنصوا من وقتهم من أجل أن يفكروا بما كانوا يفعلونه، وأنه ربما ستدفعنا الفلسفة الجديدة ابتداءً من هنا لعصرٍ جديدٍ من التعقل العام. ولكن عوضًا عن ذلك فإن مجموعة مراهقات ألمانيات كانوا في غاية الحماس لالتقاط صورة سيلفي حول الكرسي، تبعتهم عائلة أمريكية، وأدى الأب رقصة اليدين خلف الكرسيِ، بينما أخذت الأم وضعية المُفكر في الكرسي الآخر، وكان الأطفال ينهشون الحلوى. أما السياسيون وموظفو الخدمة المدنية فقد كانوا منغمسين في هواتفهم ولم يلاحظوا الفلسفة الجديدة من الأساس.
ومن المثير للاهتمام، أن البنك الذي أنقذته الحكومة خلال الأزمة المالية كان أكثر الأماكن نجاحاً لفلسفتي الجديدة، فخلال خمس دقائق من فتحي للكرسي أصبحتُ موضع قلق لحارس الأمن، فقد تعديت حيز ملكية البنك، وحللت المسألة بأن أزحت الكرسي بضعة إنشات، وبعدها على الفور اقترب اثنان آخران من الحراس معبرين عن قلقهم لما قد تخلقه الفلسفة الجديدة من مخاطر متعلقة بسمعة البنك. وفي أعقاب ذلك سألتني امرأة متشردة عما كنت أفعله، فأجبتها: “أفكر”، فأجابتني: “ليس لدي الوقت لذلك”.
ابتسم عاملو البنك المتدفقون باستمرار عندما رأوا لافتتي، البعض التقط صورةً ربما ستُنشر على مواقع التواصل الإجتماعي، والبعض الآخر جلس لدقائق معدودة مفكرًا بهدوء وانطلق بعدها لطريقه، وأراد القليل أن يتحدثوا -بما فيهم عالمة انثروبولوجيا تبين أنها مستثمرة- أخبرتني بأنها تتوق لاستخدام عقلها لبعض الوقت خلال اليوم، وجلس فيلسوف محلل تبين أنه تقني، وعَبّر عن قلقه إزاء الفلسفة الجديدة، وكيف لها أن تخاطب العامة. جلب موقع البنك -الناجي- الخوفَ والإجابات العميقة في نفس الوقت، مشيرًا لطاقة دفينة ولكنها متناقضة تحوم حول هذه المؤسسات المالية.
كانت الفلسفة الجديدة فرصة للتأمل الذاتي أكثر من كونها مناسبة لالتقاط صورة سيلفي.
عدت لجامعتي، ومرة أخرى وضعت فلسفتي الجديدة وخططت للتفكير بما تعلمته من هذه التجربة. أنا لست بعالم أعصاب ولذلك كان ينقصني قراءات لمخططات دماغية أو صورة الرنين المغناطيسي لفهم كيف تغير النشاط الدماغي للمشاركين في تجربتي، كل ما لدي كان ملاحظاتي من المراقبة.
أظهرت الفلسفة الجديدة أن التفكير في العلن قد يؤدي لمخاطر أمنية، كانت الفلسفة الجديدة لكثير من الناس فرصة للتأمل الذاتي أكثر من كونها مناسبة لالتقاط صورة سيلفي، وبالرغم من أنها كانت دعوة للجلوس والتفكير فقط، فإن بعض الناس لم يستطيعوا مقاومة الإلهاء الرقمي، ولكن في الكفة الأخرى فإن الكثير من الناس جلسوا بهدوء وفكروا ومن ثم انطلقوا إلى طريقهم، والقليل من الشجعان تحدثوا معي، وأفضوا لي عن تخوفهم من أن الفلسفة أو التفكير بشكل عام بات أمراً محدوداً بأسوار الجامعة فقط. كان هؤلاء المارة عميقو الفكر قلقين حول ما لو كان التفكير في الحياة العامة اليومية في نقصان، فتساءلت أثناء جلستي خارج جامعتي كم من التفكير الحقيقي يدور ضمن هذه الأسوار؟
دعت تجربة الفلسفة الجديدة الناس ليجلسوا ويفكروا، لست متأكدًا كم فيلسوفًا صنعت هذه الجلسة على الكرسي في دقائق معدودة، ولم أقتنع بأن جرعة من الفلسفة العامة جعلت من الناس أعمق في تفكيرهم. ومع ذلك فلقد قضيت بالتأكيد عشرات الساعات في التفكير على الكرسي في أرجاء لندن أكثر من سنواتٍ قضيتها في مكتبي في الجامعة. ولربما أن أهم ما علمتني إياه هذه التجربة كان ما كتب عنه أرسطو قبل 2,500 سنة مضت، “إن التأمل هو الفضيلة العظمى للإنسان والتي تقوده للسعادة”.
بفضل هذه التأملات، حملت للمرة الأخيرة الكرسيين، وعدت إلى ساحة البرلمان فتلقيت تعليماتٍ من حارس أمن صارم أنه لا يُسمح لي بالجلوس في الساحة، فبدلًا من ذلك أجبرت على تعليق لوحة الفلسفة الجديدة في الممشى، وكنت قريباً من نقطة تخييم براين هاو، حيث تظاهر هناك قرابة العشر سنوات ضد حرب العراق. وبدأت بالتفكير حينما طُردت: كم كانت هذه طريقة رائعة لقضاء الصباح أكثر من الكدح على مهمة إدارية. وسمعت صوت سائق شاحنة توصيل يصرخ: “حسنًا، ما هي الحقيقة؟”، فرددت قبل أن تفتح الإشارة، لينطلق بعيدًا “هذا ما أحاول اكتشافه”.
أحدث التعليقات