العصف الذهني: كيف تولّد أفكارًا أصيلة

ترجمة بتصرّف لمقال: (Brainstorming: how to generate new ideas by Anne-Laure Le Cunff)
مصدر الصورة: Unsplash
كتابة: آن لوري لو كونف
ترجمة كفاية نزال
تدقيق: جمانة السوادي @Jumana_Writes
مراجعة نهائية: ندى محمد @nadazzz99
يعتقد الكثير من الناس أن الإبداع فطري – أي أنه موهبة يحظى بها قليلٌ من الناس ولا يمكن تعليمها أو تعلمها. وهذا ليس بعيدًا تمامًا عن الحقيقة. نعم، الإبداع فطري بمعنى أننا جميعًا ولدنا به.
لكن بينما يمضي بنا العمر يفقد كثيرٌ منا هذه المهارة، الخبر السار هو أن كل مهارةٍ نفقدها نستطيع اكتسابها مجددًا، ويأتي السؤال هنا: كيف؟
يبدو الإبداع موضوعًا ملتبسًا وغامضًا مع كل هذا الزخم من المحتوى حوله والعديد من النصائح التي قد تنجح وقد لاتنجح، لكن ماذا يقول العلم عن الإبداع؟ كيف نستطيع أن نبدع أكثر ونتمكن من طرح أفكارٍ أصيلة؟
- الكمية مقابل الجودة
ضمنيًا، لدينا تصور بأن العمل المتقن يستغرق وقتًا. ولذلك، غالبا ما يكون حُكمنا سلبيًا على الكتاب غزيري الإنتاج؛ ولدينا افتراض أن أعمالهم رديئة. في مقال رائع كُتب في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان هل يمكن أن يكون الروائي غزير الإنتاج؟– يقول ستيفن كينج -الذي نشر أكثر من 55 رواية- : أن الكمية ليست ضمانًا للجودة إطلاقًا، إلا أن غزارة الإنتاج تؤدي بالتأكيد إلى جودة العمل.
أجاثا كريستي ألفت 91 كتابًا وقدمت لنا هرقل بوارو، رسم بيكاسو أكثر من 20000 عمل فني، طور جيمس دايسون 5127 نموذجًا أوليًا قبل أن يُصمم أفضل مكنسة كهربائية. توماس إديسون مازال حائزًا على الرقم القياسي في عدد براءات الاختراع -أكثر من ألف براءة اختراع مسجلة باسمه- هل كل ما أنتجه هؤلاء كان أصيلًا ولم يسبقهم إليه أحد؟ ربما لا، وهذا هو بالضبط بيت القصيد.
قد يبدو هذا مستغربًا، لكن العلم يظهر أن الكمية تؤدي إلى الجودة بما يتعلق بالإنتاج الإبداعي. بعبارةٍ أسهل: كلما أنتجت مزيدًا من الأعمال والأفكار، سوف تزيد من إمكانية ظهور الإبداع في إنتاجك.
في كتاب الفن والخوف، يروي (ديفيد بيليس) حكاية أستاذ في فن الفخّار أجرى تجربة مع طلابه. حيث قسم الأستاذ الفصل إلى مجموعتين، وكان من المقرر تقييم المجموعة “أ” بناءً على جودة العمل الذي تؤديه، بينما ستُقيّم المجموعة “ب” على الكمية التي تنتجها. وللحصول على الدرجة الكاملة كان على المجموعة “أ” إنتاج وعاءٍ واحد فقط – أفضل وعاءٍ ممكن من الفخّار- بينما كان على المجموعة “ب” إنتاج أكبر عدد ممكن منها.
كانت النتائج رائعة: عندما حان وقت التقييم، قدمت المجموعة “ب” العمل الأفضل، مجموعة “الكمية”. بينما كانت المجموعة “أ” مشغولة بالمناقشة والتنظير، كانت المجموعة “ب” بإخلاص تنحتُ وعاءً تلو الآخر، وتتعلم من أخطائها عبر هذه العملية.
هل تعتقد أن أفكارك نفدَت؟ وفق هذا البحث، فإننا نستهين بقدرتنا على إنتاج كمية كبيرة الأفكار. والأكثر إثارةً للاهتمام، يُشير ذات البحث إلى أننا بقدر مانُنتج ونولّد من أفكار، بقدر ما تصبح أفكارنا أكثر إبداعيةً وابتكارًا.
الروتين الإبداعي
إن الإبداع -في حقيقته- ليس إلا عضلة، وللمحافظة على لياقتها عليك أن تُمرّنها وتستخدمها. ويعني هذا إجبار نفسك على الإبداع وفق جدولٍ زمني. بالطبع إن قضاء وقتٍ كبير في البحث والقراءة في مجال اهتمامك هو أمرٌ مثير وممتع – وهذا له وقته أيضًا في جدولك! – لكنك لن تُحسّن من تفكيرك الإبداعي بدون المواظبة على إنتاج الأفكار.
سبق أن تحدثتُ عن بناء صالة ألعاب رياضية عقلية. لنفترض أن هدفك هو كتابة كتاب، أو أن تصبح رسامًا محترفًا، أو مطورًا للتطبيقات، فلا تنتظر أن يأتيك الإبداع على شكل تدفق عشوائي من الإلهام. خَصّصْ وقتًا كل يوم أو كل أسبوع لتوليد أفكار جديدة وعمل جديد. أنا شخصيا استخدم التأطير الذهني للتأكد من أن محصولي الإبداعي اليومي يتوافق مع أهدافي الكبرى، وطالما أنك تُمرّن عضلاتك الإبداعية باستمرار، فأنت في طريقك لابتكار أفضل أعمالك الإبداعية.
“حدد ما تريد أن تنجزه خلال اليوم، ثم التزم بإنجازه دائمًا في نفس اللحظة يوميًا، ومع الشغف، لن تواجه أي صعوبة.”
دبليو إتش أودن ، شاعر إنجليزي-أمريكي.
يسمح لك وجود روتين إبداعي من السيطرة على النطاق الترددي المعرفي لتفكيرك الإبداعي. وفقًا لِوليام جيمس -الذي يُنظر إليه بصفته أبو علم النفس الحديث- ، فإن روتينًا كهذا يُتيح لنا ” أن نُحرّرعقولنا للتقدم في مجالات عمل مهمة حقًا”. ومن حيث المبدأ، حاول أن تستفيد من المصادر التي تستخدمها في تحديد متى وأين تقوم بإنتاج العمل الإبداعي بالقيام بمهامك الفعلية -لا الإبداعية فقط-
إذا كيف تبدأ بالإبداع وفقًا لجدول زمني؟
- استيقظ مبكرًا أو اسهر لوقت متأخر: ما من روتين صحيح أو خاطئ. بعض المبدعين يستيقظون باكرًا، والبعض الآخر يعملون في الليل كالبوم. كتبت أنيس نين في مذكراتها: “أعظم إنجازاتي أؤديها صباحًا”. على النقيض يقول جاك كيرواك: “إحدى طقوسي تتمثل في إضاءة شمعة والكتابة على ضوئها ومن ثم إطفائها عندما أنتهي في الليل.” اختر ما يناسبك.
- استعد لتُبدع: خذ بعض الوقت للاسترخاء وهيّئ إبداعك ليتدفق. اكتب بضعة جمل دون أن تُطيل التفكير، اعبث بالبرنامج الذي تستخدمه للتصميم دون أن تحاول تصميم شيء ملموس. ستمنح هذه العملية عقلك وقتًا للانتقال إلى الوضع الإبداعي.
- صمم مساحتك الإبداعية: إن استطعت خصّص مساحةً منعزلة للإبداع فقط. خاصة إن كنت تعمل عن بُعد، إننا نميل للجلوس في أي مكان حتى لو على طاولة المطبخ، حدّد مكانًا واجعله مساحتك الإبداعية. لتكُن مريحة وتأكد من أن لديك جميع الأدوات التي تحتاجها في عمليتك الإبداعية.
إذا كنت ترغب في قراءة المزيد عن الروتين الإبداعي للفنانين والمخترعين المشهورين، فإنني أوصي بقراءة الطقوس اليومية من تأليف ماسون كاري – وهي مليئة بالقصص الرائعة.
إخلاء مسؤولية: تتضمن بعض الإجراءات الروتينية تعاطي المخدرات وغيرها من الأساليب والتي يمكن أن تحفز العملية الإبداعية، ولكن انتبه من تطبيق كل ما تقرأه دون تمحيص.
اختر أسلوبك الإبداعي:
وفقًا لأبحاث علم النفس الكلاسيكي ، هناك عدة أنماطٍ للإبداع يمكنك الاستفادة منها لجعل عملية العصف الذهني أكثر فاعلية:
- الإبداع المركّب: إننا غالبًا ما نبحث عن أفكار أصيلة في حين أن معظم المفاهيم الإبداعية في الواقع هي مزيج من أفكار سبق طرحُها. أولاً، اجمع أكبر عدد ممكن من الأفكار القديمة، يمكنك مثلا أن تقرأ عن الخيال العلمي، أو ببساطة دوّن ملاحظاتك في كل مرة تسمع فيها فكرة شائعة أثناء محادثة. ثم دع ذهنك يحتضن هذه الأفكار القديمة لفترة من الوقت. نعم، ما من خطوة ثانية. الآن يبدأ دور عقلك. يقول جيمس ويب يونغ في كتابه تقنية لإنتاج الأفكار : “انسَ المشكلة تمامًا وانتقل إلى ما يحفز خيالك وعواطفك. استمع إلى الموسيقى، أو اذهب إلى المسرح أو الأفلام، أو اقرأ شعرًا أو قصة بوليسية “. من المحتمل أن تأتيك الفكرة المركّبة عندما يكون عقلك مسترخيا، أثناء استحمامك مثلًا.
- الإبداع الاستكشافي: في الأوساط الأكاديمية يُعرَّف الإبداع الاستكشافي بأنه: “عملية من البحث في فضاء مفهومٍ قائم تحكمه قواعد معينة.” ما يعني أنك تحاول توليد أفكار جديدة داخل مساحة معينة، مع مراعاة قواعدها المحددة. لنأخذ وسائل المواصلات على سبيل المثال: لماذا يُعدّ الطيران مكلفًا؟ لماذا يصعب العثور على سيارة أجرة؟ إن الإبداع الاستكشافي يدور حول استكشاف المفاهيم والأفكار القائمة حاليًا والتشكيك في صحّتها للتوصل إلى حلول جديدة.
- الإبداع التحويلي: هذه الطريقة تأخذ الأمور إلى مستوى أبعد. بدلاً من استكشاف مفهوم ما والتشكيك في قواعده، يتعلق الإبداع التحويلي بتجاهل القواعد الأساسية للتوصل إلى أفكار قد تكون مستحيلة ولكنها إبداعية للغاية. دعونا نعود إلى مثال المواصلات، بدلاً من التساؤل حول أسباب تكلفة النقل الجوي ، قد تسأل نفسك: لماذا يتعين على السيارات الوقوف؟ لماذا نحتاج للسفر أصلا؟ مع الإبداع التحويلي يمكن توليد أفكار جذرية وجوهرية تمامًا.
بالنظر إلى الواقع فإننا غالبًا ما نستخدم مزيجًا من الأنواع الثلاثة للإبداع خلال العصف الذهني، وهذا إيجابي بالمناسبة، حيث نبدأ بالإبداع التحويلي ثم ننتقل إلى الإبداع الاستكشافي والمركّب، لا تستبعد أي فكرةٍ محتملة عن الطاولة وتجاوز الأفكار المجنونة إلى تلك القابلة للتنفيذ.
– لاحظ أن هذه الأنواع الثلاثة من الإبداع لها الكثير من التطبيقات المثيرة للاهتمام عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي، ولكن قد يكون هذا موضوعًا لمقال آخر-
ماذا عن العصف الذهني ضمن فريق؟ لا تختلف العملية كثيرًا بل قد تكون أكثر قوة، نظرًا لأنك تجمع بين الطاقات العقلية للعديد من الأشخاص. ومع ذلك من الضروري أن تخضع لمزيدٍ من التنظيم. لذا تأكد من وجود هذه الإجراءات الوقائية:
- هيّئ بيئة آمنة: تأكد من أن الجميع مرتاح ولا وجود لشعور المنافسة، ولتكن كل الأفكار مبدئيًا مقبولة، السلامة النفسية أمر بالغ الأهمية لفريق منتج ومبدع. في جلسة العصف الذهني “الجيدة” ما من فكرة “سيئة”
- لا تطرح حلًا فوريًا: لا تطرح أمثلةً للأفكار، حتى لا يتقيد الفريق بها ويفكروا بما يشابهها.
- لا تطلق العنان: “إذا بدأت اجتماعًا بقولك:” حسنًا، سنخرج بأفكار عظيمة حقًا “، فإن هذه بدايةٌ سيئة لأي اجتماع” كما يقول كريستيان شون من جامعة بيتسبرغ، الذي نشر ورقة مثيرة للاهتمام حول توليد الأفكار.
كيف تقوم بالعصف الذهني
عمليا، كيف يمكننا تطبيق هذا؟ فيما يلي دليل تفصيلي يشتمل على كل الخطوات للعصف الذهني الفعال وتوليد الأفكار المبتكرة، تذكر المبادئ الموضحة مسبقًا: الكمية مقابل الجودة وبناء روتين إبداعي وتفعيل الأنماط الإبداعية الثلاثة جميعها لتتأكد من أنك لم تهمل أي فكرة.
- حدد تركيزك: حدد المشكلة أو المجال الذي ستصب تركيزك فيه. يمكن أن يكون محددًا مثل أمر مزعجٍ تواجهه في حياتك، أو واسعًا كأن يشمل صناعة بأكملها، ولكن لا يمكنك أن تنفذ العصف الذهني بشكل غامض دون تحديد مجال مسبقًا.
- اجمع مواد جديدة: امنح نفسك – أو فريقك إذا كان العصف الذهني جماعيًّا- وقتًا للتعرف على مجال التركيز. ما يعني قراءة مقالات ومشاهدة مقاطع فيديو ونحو ذلك. إن كان العصف الذهني سيُنفّذ جماعيًا، فيجب أن تحدث هذه الخطوة بالضبط قبل الجلسة لإعطاء العقل وقتًا لاحتضان هذه الأفكار، ولكن إن لم يُتح لك ذلك، فخصّص بعض الوقت في بداية الجلسة.
- ابدأ بتوليد الأفكار: تذكر، الكمية أهم من الجودة. استخدم الأنماط الإبداعية الثلاثة التي ذُكرت مسبقًا. “المركّب” لخلط الأفكار القديمة معًا، و”الاستكشافي” لاستكشاف أفكار محتملة جديدة ضمن قواعد معينة، و”التحويلي” لكسر القواعد والتوصل إلى أفكار جذرية.
- اختبر أفكارك: هذه هي المرحلة التي تفشل فيها معظم جلسات العصف الذهني، إنها مرحلة إضافية ولكنها ضرورية. فبدلاً من اختيار أفكارك مباشرة ينبغي عليك اختبارها واقعيًّا. حدد عددًا من الأفكار المرشحة والواعدة وشاهد كيف يتفاعل جمهورك معها. إن كانت فكرة لكتاب فاكتب تدوينة، وإن كانت فكرة لتطبيق إلكتروني فأنشئ صفحة للتطبيق على الويب أو أطلق نسخةً مبسطة من التطبيق بأقل قدر من التكلفة وفق نموذج MVP
- حدد أفكارك واصقلها: استفد من التعليقات التي تتلقاها لاعتماد أفكارك أو لاستبعادها. إن كان هناك ملاحظة أُشير إلها باستمرار خلال المراجعات والتعليقات… ارجع إلى الخطوة 1.
مهما كان، استمر بمشاركة أفكارك مع العالم و لا تخف من أن يسرقها الناس. لأن معظم الأفكار مركّبة أساسا، الخيارات أمامك وهي ليست جديدة، والتنفيذ هو المحكّ الحقيقي. إذا توصلت إلى فكرة إبداعية “تحويلية” فعلًا، فمن المستبعد أن يلتقطها شخص ما ويسارع إلى تنفيذها. لذا انطلق ونمّ أفكارك!
أحدث التعليقات