الكوكب البشري، اللغات الجميلة للبشر الذين يتحدثون كالطيور

ترجمة يتصرف لمقال:( the beautiful languages of the people who talk like birds by BBC)

الترجمة: سميه الفايز. 

التدقيق: ياسمين السعدي.

المراجعة: ربى الشمراني.

قد يكشف حديث التصفير غير العادي كيف هي أولى أصوات الكلمات الإنسانية

ديفيد روبسون | ٢٥ مايو ٢٠١٧

إذا كنت محظوظًا كفاية لزيارة سفوح جبال الهملايا، فإنه يمكنك سماع رنين ثنائي ملفت للنظر في الغابة، وقد يكون الصوت لإذن غير متدربة يشبه تسخين موسيقي لآلَة غريبة. في الواقع هذا اللحن الساحر هو صوت حبيبين اثنين يتحدثان بسرية (لغة التصفير).


وهناك عدد قليل من مجتمعات أخرى تتواصل بهذه الطريقة. فإن الهمونغ (Hmong) (بشر يعيشون في أودية جبلية معزولة في أنحاء جنوب شرق آسيا) يستطيعون التحدث بالتصفير. تسمح هذه الأصوات عادةً للمزارعين الدردشة عبر محاصيلهم، وللصيادين مُناداة بعضهم البعض في غَاباتهم. ولكن ربما ما تكون لغتهم الأجمل تعبيرًا -والتي يندر حدوثها في هذا الوقت- خلال المغازلة، وذلك عندما يتجول الأولاد في القرى المجاورة عند حلول الظلام يصفرون قصائدهم المفضلة بين المنازل وإذا وجدَ استجابةً من أي فتاة، فإن الثنائي يبدآن بحوارٍ مليءٍ بالغزل.

قد يخلق الثنائي رمزًا شخصيًا خاصًا بهم إضافةً لمقاطع غير مفهومة لإرباك المتنصتين

إنها ليست ألحانا جذابةً فحسب لتصبح اللغة المثالية للحب، بل مقارنةً مع المحادثات المنطوقة فمن الصعب التعرف على هوية الثنائي من تَصفيرهم، ويتيح عدم كشف هويتهم على الملأ. قد يخلق الثنائي رمزًا شخصيًا خاصًا بهم إضافةً إلى مقاطع غير مفهومة لإرباك المتنصتين، مثله -كحد ما- الخنزير اللاتيني الذي يستخدمه تلاميذ المدرسة الإنجليزية لخداع أهاليهم. يقول جوليان ماير (Julien Meyer) من جامعة غرونوبل (Grenoble) بفرنسا الذي زار المنطقة في أوائل العقد الأول من القرن الحالي: «إنها تمنحهم بعضا من المودة».

توفر الأودية المفتوحة في لاغوميرا (La Gomera) ظروفًا مثاليةً لاستخدام الإشارات التصفيرية، والتي تصل أحيانًا إلى ٨ كم (٥ أميال)

هذا التدريب لا يبرز فقط التنوع اللغوي المذهل للبشرية، بل قد يساعدنا على فهم حدود التواصل البشري. في معظم اللغات تستخدم الصفارات لأكثر من مجرد جذب انتباه؛ على الرغم من أنها تبدو أبسط من أن تحمل معنى أكثر من ذلك. ولكن ماير (Meyer) حدد أكثر من ٧٠ جماعة حول العالم يمكنها استخدام الصفارات للتعبير بكل مرونة.

تظهر هذه اللغات الغامضة قدرة الدماغ المذهلة على فك تشفير المعلومات من إشعارات جديدة، بالإضافة إلى أفكارٍ تجعلُ بعض علماء الأعصاب يعيدون التفكير في التنظيم الأساسي للدماغ. وهذا البحث قد يلقي الضوء على أهمية اللغة نفسها. ووفقًا لإحدى الفرضيات فإنه قد تكون كلماتنا الأولى قد بدت وكأنها تشبه أغاني المغازلة للهمونغ (Hmong).

https://soundcloud.com/bbc_com/entodoelmundo

مقطع صوتي عبر ساوند كلاود.

بدأ اهتمام ماير (Meyer) في لغات التصفير بمقالة أمريكية علمية عمرها ٤٠ عامًا عن (Silbo Gomero) وهو شكل التصفير الأسباني «الملفوظ» في إحدى جزر الكناري. تسمح الأصوات الماهرة للرعاة بالتواصل عبر الأودية العميقة، وكما يبدو فإنهم قريبين لأغاني الطيور المحلية التي تتعلم وتقلد الحوارات البشرية. يمكنك سماع المقطع السابق لشخص يصفر ‘En todo el mundo hay hombres que hablan silbando’ والذي يترجم: «في جميع أنحاء العالم هناك بشر يصفرون لغتهم»

(مقطع من باب المجاملة لجوليان ماير (Meyer) ولوري دانتيل).

كان ماير (Meyer) مفتونًا بذلك من أول وهلة وانتهى به المطاف إلى إكمال شهادة الدكتوراة في هذا الموضوع. وبعد أكثر من عقد لا زال مدمنًا على ذلك. يقول: «لم أعتقد يومًا ما أن الموضوع سيجلب لي وظيفة».

لا يشبه كلامهم أي شيء آخر في العالم: إنه يشبه صرير الخفافيش – هيرودوت (Herodotus)

ركزت العديد من أبحاث ماير (Meyer) على رسوم بيانية انتشرت في جميع أنحاء الكرة الأرضية. قدمت كتب التاريخ العريقة بعضًا من المؤشرات. على سبيل المثال، في القرن الخامس قبل الميلاد وصف المؤرخ اليوناني هيرودوت (Herodotus) مجموعة من الإثيوبيين المقيمين في الكهوف وكتب: «لا يشبه كلامهم أي شيء آخر في العالم: إنه يشبه صرير الخفافيش». لا يمكننا معرفة على وجه اليقين أي المجتمعات كان يصف، ولكن يقول ماير (Meyer) أن العديد من لغات التصفير لا تزال مسموعة في وادي أومو الإثيوبي.

في الواقع قام ماير (Meyer) بتحديد لغات التصفير في كل ركن من أركان الكرة الأرضية. وبالنظر إلى أنه يمكن للصافرات السفر إلى حد أبعد من الخطاب الطبيعي – بقدر ٨ كم (٥ أميال) في الأماكن المفتوحة، فهي الأكثر شيوعًا في الجبال، والتي تساعد الرعاة والمزارعين على تمرير الرسائل أسفل الوادي.

ولكن يمكن للأصوات أيضًا اختراق الغابات الكثيفة مثل الأمازون، حيث يصفر الصيادين لتحديد مكان بعضهم البعض عبر أوراق الشجر الكثيفة. يقول ماير (Meyer) : «الصافرات مفيدة للقتال ضد الصدى». وعلى عكس الكلام الاعتيادي فإنه لا يميل إلى تخويف الفريسة المحتملة. ويمكن أيضًا أن يكون مفيدًا في البحر، فإن التصفير يساعد مجتمعات الإينويت (Inuit)، وهم السكان الأصليين لشمال كندا وأجزاء من غرينلاند وألاسكا في مضيق بيرنغ، على إصدار الأوامر ومساعدة بعضهم البعض في مطاردة الحيتان.

يستخدم صيادو يوبيك (Yupik) السيبيريون الصافرات لاستدعاء الأوامر للمطاردة في البحر.

قام الجيش الأسترالي بتجنيد سماعات (وام) لتصفّر الرسائل عبر الراديو، لكي لا يستطيع اليابانيون فك الرموز

ربما من غير المستغرب أن تكون هذه اللغات المبهمة أيضًا سلاحًا في الحروب. يقول ماير (Meyer) أن السكان البربر الأصليين (المعروفين أيضًا بالأمازيغ) في جبال أطلس قد استخدموا الصافرات لتمرير الرسائل أثناء مقاومتهم للفرنسيين. في غضون ذلك قام الجيش الأسترالي بتجنيد سماعات (وَام) من بابوا غينيا الجديدة -جزيرة كبيرة مقابل قارة أستراليا- لتصفّر الرسائل عبر الراديو بحيث يمكن إرباك اليابانيين المتنصتين.

ولا ننسى بأن حديث التصفير يستخدم عادةً لأهداف أقل غموضًا؛ مثل الدّين والرومانسية والشعر كما أظهر الهمونغ (Hmong) بشكلٍ جميل جدًا. سجّلت النصوص الصينية القديمة أن الناس يصفرون للآيات الطاوية وهي ممارسة كان يعتقد أنها ترسلهم إلى نوع من التفكير التأملي. وجد ماير (Meyer) أن الصين الجنوبية لا تزال نقطة ساخنة للعديد من مجتمعات التصفير المتنوعة بين الأقليات العرقية بما في ذلك الهمونغ (Hmong) وشعب الأكْها (Akha).

من الواضح أن لغات التصفير ليست مجرد مادة أسطورية، بل هي طريقة نابضة بالحياة للتواصل مع ملايين البشر الذين يعيشون اليوم. ومع ذلك قد يبدو للمبتدئين أنه من المستحيل تخيّل الطرق التي تمكن النغمات المرتفعة والمنخفضة من إيصال معنى .

وجد ماير (Meyer) أنهم يعتمدون عادةً على واحدة من الاستراتيجيتين، كلاهما يستخدمان التغييرات في النغمة لإنشاء نوع من الهيكل الأساسي المعزول لِلغة الملفوظة، وكل ذلك يعتمد ما إذا كان الكلام العادي اليومي «نغمي». في بعض البلدان وخاصةً في آسيا، يمكن لنغمة مقطع لفظي واحد في الكلمة تغيير المعنى. ونتيجة لذلك، تتبع الصافرات الألحان الملازمة في أي جملة ملفوظة. ولكن اللغات الأخرى مثل الأسبانية والتركية ليست نغمية بشكل طبيعي. فإن الصافرات في هذه الحالات تحاكي بدلاً من ذلك التغيرات في الرنين التي تأتي بأصوات العلة المختلفة، في حين يمكن تمييز الحروف الساكنة من خلال كيفية قفز الصافرات بشكل مفاجئ والانزلاق من نغمة إلى نغمة.

أفادت الأنباء أن البربر (المعروفين أيضًا بالأمازيغ) استخدموا صفارة الأوامر لبعضهم البعض أثناء مقاومتهم للقوى الاستعمارية الفرنسية.

يمكننا جميعًا فك رموز الرسائل المبعثرة – عقلك يملأ الفراغات تلقائيًا

وفي كلتا الحالتين تفقد الصافرات العديد من الإشارات التي تساعدنا تلقائيًا على التمييز بين الكلمات المختلفة، وغالبًا ما يجده الغرباء مستحيل التصديق بأنها تحمل رسائل واضحة. ومع ذلك فقد وجد ماير (Meyer) بأنه يستطيع المصفرين بطلاقة فك تشفير الجمل بأكثر من ٩٠٪ من الدقة، ما يقارب نفس وضوح الحديث. يشتبه ماير (Meyer) في أن هذا يعتمد على نفس الآلية العصبية التي تسمح لنا بإجراء محادثة في غرفة مزدحمة، أو لفهم رسالة هامسة. يقول ماير (Meyer): «عقولنا حقًا جيدة في إعادة تشكيل الكلمات التي تبعثرت قليلاً بسبب الضوضاء أو التشوهات الأخرى». نستطيع أن نرى بالمثل في الرسائل المكتوبة عندما تكون الحروف مبعثرة أو عند إزالة الحروف المتحركة؛ فإن عقولنا تلقائيًا تملأ الفراغات.

قرية الطيور

تؤدي دراسات متقدمة حول هذه العملية إلى دفع بعض علماء الأعصاب لإعادة التفكير في طريقة تنظيم الدماغ.

لعقودٍ من الزمان افترض الباحثون أن كل جانب من الدماغ متخصص بدرجة عالية في مهام معينة – حيث تتواجد اللغة قطعًا في الجزء الأيسر. لكن أراد أونر جيونتوركن (Onur Gunturkun) -من جامعة رور في بوخوم (Ruhr University Bochum)، ألمانيا- أن يكتشف ما إذا كان الأمر نفسه مع الصافرات، فإنه يقول : «الطريقة التي تسمع أو تقرأ بها اللغة لا يجب أن تحدث فرقًا».

https://soundcloud.com/bbc_com/islik-dili-konusuyoruz n

لمعرفة ذلك سافر إلى (Kuskoy) بالتحديد «قرية الطيور» – حيث تقع في وادٍ بالقرب من البحر الأسود. مثل سكان لا غوميرا (La Gomera)، فإن الرعاة يصفرون الرسائل عبر الهضبة الجبلية في حين يستخدم الصيادون الصافرات لقطع طريق هدير النهر في الوادي. لا يزال يتذكر جيونتوركن مشاهدة محادثة تصفير لأول مرة حيث رحّب به العمدة في القرية. ويقول تجربة سماع شئٍ مختلف عن اللغة الأصلية يحمل معاني كثيرة جدًا «كالسحر». يمكنك سماع مقطعًا صوتيًا في الأعلى لقرية (Kuskoy) يقول: «نحن نتحدث لغة التصفير».

من الممكن أن يكون الماسح الضوئي للدماغ ثقيل جدا للحمل في الطريق من ألمانيا إلى هذه القرية المعزولة، لذا ارتجل جيونتوركن بمهمة بسيطة وهي الإنصات والتي تتضمن تشغيل قليلاً من مقاطع لفظية في كل أذن وسؤال المشارك أن يُخبر أيُ مقطعٍ سمع. تركزت التجربة على ميزة شبكات الجسم والتي تعني أن كل أذن تتغذى نحو الجانب المعاكس للدماغ. ونتيجة لذلك يميل المقطع اللفظي للأذن اليمنى إلى جذب انتباهنا حيث تنقل الإشارات العصبية من الأذن اليمنى للنصف الأيسر من الدماغ أسرع. إذا شغّل جيونتوركن

«pah» في الأذن اليسرى و «tah» في الأذن اليمنى على سبيل المثال فإنك سوف تسمع «tah» – لأنها تصل إلى مراكز معالجة اللغة أولاً.

انتهى وقت انعدام تناسق الدماغ – يتشارك كلا الجانبين العمل

على الأقل كانت نظرية، ومع ذلك لم يكن هذا ما سمعه سكان (Kuskoy) عندما شغل جيونتوركن مقاطع لفظية مصفّرة. بدلاً من تفضيل اليسار أو اليمين، فقد كان تمييزهم للصافرات متساوٍ تقريبا في كلا الاتجاهين، مما يوحي بأن كلا الجانبين للدماغ يتم اختيارها لفِهم الإشارات. يقول جيونتوركن: «انتهى وقت عدم التناسق، يتشارك كلا الجانبين العمل».

لا يبرهن هذا مرونة الدماغ فحسب، فقد تساعد النتائج التي انتشرت في عام ٢٠١٥ الناس في إعادة بناء حياتهم بعد السكتة الدماغية. يمكن أن يؤدي تلف الجزء الأيسر من الدماغ لشخص ما عدم القدرة على الكلام – لكن تشير نتائج جيونتوركن أنه قد تكون قادرًا على نقل معالجته إلى الجانب الأيمن والتحدث بالتصفير بدلاً من ذلك، وكما يقال: «كل الطرق تؤدي إلى روما»، ويؤكد بأن ذلك لم يكن الهدف الأساسي من البحث، مع ذلك «كان مجرد فضول، من أجل فهم العالم من حولنا».

تظهر تجارب الفريق الخاصة أنه يمكن للغرباء البدء في التكيف مع «لغة الطير» بالتعرض المنتظم – شريطة أن تعرف اللغة المحكية أولاً. يجيد جيونتوركن اللغة التركية بطلاقة وفي نهاية الرحلة بدأ باكتشاف كلمة مصفّرة غريبة من محادثات السكان المحليين. وكما يبدو، فإن تجربته تدعم دراسة ماير (Meyer) الأخيرة، والتي وجدت أن الناس مع معرفة سابقة للغات التصفير يمكنهم بعد فترة قصيرة اكتشاف أي الصافرات تطابق مع حروف العلة، فأنت لست بحاجة أن تولد في (Kuskoy) لتتَعلم التحدث مثل الطير.

قد تستخدم مجتمعات الهمونغ (Hmong) قيثارة الفم لتكرار ألحان لغات التصفير مما يؤدي إلى عدم وضوح الحدود بين الموسيقى والكلام.

كما تثير لغات التصفير اهتمامًا متزايدًا لعلماء الأعصاب بدراسة إحدى الميزات الفريدة الأخرى للإنسانية – الموسيقى. تشير الأدلة المتزايدة أن اللغة والموسيقى كلاهما يعتمدان على العديد من مناطق الدماغ، فنحن نميل لمعالجة تقدم تناغم الأغنية باستخدام نفس الدوائر التي تفيد في بناء الجملة على سبيل المثال، وهذا قد يفسر لمَ يمكن لِدروس الموسيقى التخفيف من بعض مشاكل الكلام والسمع. في ٢٠١٤ وجد فريق من جامعة نورث ويسترن (Northwestern) في شيكاغو أنه يمكن للتدريب الموسيقي تطوير معرفة القراءة والكتابة لدى الطفل.

تتسع لغة التصفير في كلا حدودي الموسيقى واللغة

لابد أن يُظهر التواصل التصفيري -مع ألحانه الفاتنة- مثالاً تلقائيًا لهذه الصلة القوية. يقول آني باتيل (Aniruddh Patel) من جامعة تافتس (Tufts) في ماساتشوستس (Massachusetts): «يبدو أن هناك حدود بين الموسيقى واللغة». على سبيل المثال، من الممكن أن يعزف الهمونغ (Hmong) قصائدهم على آلة قيثارة الفم، في هذه الحالة يستحيلُ فصل اللحن عن الكلمات.

وأيضًا يقول إن العمل على كيفية معالجة هذه اللغات يمكن بالتالي تقديم تفاصيل دقيقة عن الشبكات المشتركة، والطرق التي تتعامل بأنظمة الدماغ مع نوعين من الأصوات. وبشكل مؤكد فإن الجزء الأيمن من الدماغ، والذي يلعب دورًا أساسيًا في فهم مقاطع التصفير، كان معروفًا منذ وقت طويل بمعالجة الإيقاع واللحن – مما يقدم مثالاً للطرق التي يمكنها أن تساعد -بمعالجة الموسيقى- على فهم اللغة ، والعكس صحيح.

لغة بروتو الموسيقية (Protolanguage) -لغة افتراضية مفقودة من لغة الأم التي تستمد منها اللغات الفعلية-

ولخوض المزيد، ربما نبدأ في فهم كيفية ظهور هذه السمات في مرحلة ما قبل التاريخ. شاركت كل من الموسيقى واللغة في تغييرات استثنائية: كَالتعبير المكرر، والقدرة على تقليد الآخرين، والقدرة على التفكير بشكل رمزي. ولكن ما وضع كل ذلك في المذكرة؟

يرجع أحد الحلول الرائعة الخاصة لهذا اللغز إلى والد النظرية التطورية تشارلز داروين الذي يرى ظهور الصفتين معًا كنوع من «اللغة الموسيقية». وفقًا لهذا الرأي بدأ الناس أولاً بالغناء قبل التحدث، ربما كنوع من طقوس التودد. ومثلما هو الحال مع أغنية الطيور السوداء، كانت اللغة الموسيقية طريقة لإظهار بَراعتنا الفنية، وتشكيل الروابط الاجتماعية، وتخويف المنافسين دون أن تحمل معاني محددة. لكن مع مرور الوقت كانت هذه الممارسة تدفعنا إلى تطوير التحكم الدقيق للأحبال الصوتية، التي وضعت بعد ذلك أسس لأقوال أكثر معنى.

اورانوتانس (Orangutans) -قرد شجري كبير مع شعر أحمر طويل وأذرع طويلة- في البرية يصدر نوعًا من أصوات الصرير، كإشارة قد تكون أقرب إلى الصفير من الكلام.

الفكرة جذابة لبعض علماء الأحياء التطوُّريِّين حيث تشير إلى سلسلة من الخطوات الصغيرة بدلاً من قفزة عملاقة من أجل رحلة البشرية إلى اللغة. ولكن بالنظر إلى ثقافات الناس مثل الأكها (Akha) والهَمونغ (Hmong) فهل يمكن أن تكون أول لغة تصفير بدلاً من أن تغنى؟

يقول ماير (Meyer) الذي وضحّت فرضياته في دراسة أخيرة عن حديث التصفير: «ربما كان التصفير جزءًا من الفعالية التي دفعت البشر إلى تكيّف تواصلهم مع شيء أكثر تفصيلاً».

قد يكون التصفير نقطة انطلاق مثالية للغة كما وجد أسلافنا أصواتهم

يشير ماير (Meyer) إلى أنه على الرغم من أن الثديّات الأخرى لا يمكنها تعلم التحدث كالبشر، لكن البعض منها يتقن التصفير. تمكنت بوني (Bonnie)، قردة شَجرية في حديقة الحيوان الوطنية في واشنطن، من تقليد النغمات البسيطة لحارسها إيرين سترومبيرغ (Erin Stromberg)، وقد عُرف أن قردة الـ(أورنجتان) البرية تصدر صوت الصرير بمهارة عالية عن طريق مص الهواء عبر ورقة الشجر. يشير هذا الأمر إلى أن التصفير ربما يتطلب تكيفًا أقل من الحديث المسموع مما يجعله نقطة انطلاق مثالية للغة.

إذا كان الأمر كذلك فإنه من الممكن أن تبدأ إشارات التصفير باعتبارها لغة موسيقية، ومع تعقيدها وتعبئتها بالمعنى، كان يمكن أن تساعد في تنسيق الصيد والبحث عن المؤنة. بعد كل ذلك، تشير أبحاث ماير (Meyer) الأخيرة إلى أن التصفير مثالي للتواصل عبر المسافات، وتجنب انتباه الحيوانات المفترسة والفريسة وهي المزايا التي كانت ستساعد على بقاء أسلافنا. وبعدها صار بإمكاننا السيطرة على أوتارنا الصوتية أيضًا، ولكن تستمر لغة التصفير في الإنكماش لكنها عنصر حاسم في مرجع البشرية أجمع.

لم تتلقَ الفكرة إجماعا علميا بعد. ولكن إذا كانت صحيحة، فذلك يعني أن تلك الألحان الساحرة من الهمونغ (Hmong) قد تكون الأقرب من أي وقتٍ مضى لنسمع أصوات كلمات البشرية الأولى. بما أن التجديد يحدث بسرعة كبيرة في تلك المجتمعات النائية، فنحن نحتاج إلى التحرك بسرعة لالتقاط هذه اللغات، قبل أن تندثر تلك المحاكاة من الماضي إلى الأبد.

المصدر

أحدث المقالات
أحدث التعليقات
الأرشيف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *