نقد المقاييس: كيف تسببت مقاييس الأداء بنتائج سلبية
ترجمة بتصرّف لمقال:(Against metrics: how measuring performance by numbers backfires By Marina Benjamin)
ترجمة: هاجر البدوي
تدقيق: ريم ريحان reemrayhan@
مراجعة نهائية: ندى محمد
جيري مولر وهو أستاذ في التاريخ في الجامعة الكاثوليكية الأمريكية في واشنطن، آخر كتبه هو استبداد المقاييس(2018).
تم النشر بالاشتراك مع
شريك إستراتيجي لآيون
تحرير مارينا بنجامين
أصبحت المزيد والمزيد من الشركات، والوكالات الحكومية، والمؤسسات التعليمية، والمنظمات الخيرية اليوم في قبضة ظاهرةٍ جديدة وقد أطلقتُ عليها “هوس المقاييس”. تتلخص المكونات الرئيسة للتعلُق بالمقاييس في الاعتقاد بأنه، يمكن -ويُحبّذ- الاستعاضة به عن التقدير المهني (الذي تم اكتسابه من خلال الخبرة الشخصية والكفاءة) بمؤشرات رقمية لنسب الأداء استنادًا إلى بيانات موحدة (مقاييس)؛ وأن أفضل طريقة لتحفيز الناس داخل هذه المنظمات هي ربط المكافآت والعقوبات بنتائج مقاييس أدائهم.
ويمكن أن تكون المكافآت نقدية -في شكل أجر مقابل للأداء- أو رفع مستوى الصلاحية أو تقديم التقدير، أو في شكل رتبة أكاديمية في الجامعة، أو رفع تقييم المستشفى، أو تقديم تقارير إيجابية عن مستوى الخدمات الصحية وما إلى ذلك، ولكن التأثير الأكبر ضررًا عند الهوس بالمقاييس، هو أنه أشبه بالتحفيز على القمار: أي تشجيع المهنيين على تحقيق أقصى وأقرب حد ممكن للمقاييس الموضوعة باستخدام أساليب تتنافى مع الغرض الأساسي للمنظمة.
إذا أصبح خفض معدل الجرائم الكبرى في مدينةٍ ما، هو المقياس الذي يترقى بموجبه ضباط الشرطة في تلك المدينة، فإن بعض الضباط لن يسجلوا بعض الجرائم من الأساس أو يخفضونها من مرتبة الجرائم الكبرى إلى مرتبة الجُنح، أو لنتحدث بشأن مسألة الجراحين عندما يتم الإعلان عن مقاييس النجاح والفشل ــ التي تؤثر على سُمعتهم ودخلهم ــ فإن بعض الجرّاحين سوف يتجهون إلى تحسين تقييمهم، من خلال رفضهم جراحات المرضى الذين يعانون من أمراض خطيرة جدًا، ومن المرجح أن يعانوا من مضاعفات. من الذي يعاني هنا؟ المرضى الذين لن يتلقوا العلاج اللازم.
عندما يتم ربط المكافأة بمقياس الأداء العام، فإن الهوس المرضي بالمقاييس يؤدي لهذه المقامرة. ولكن التعلُق بالمقاييس يؤدي أيضًا إلى مجموعة متنوعة من العواقب السلبية الخفية غير المقصودة، وتلك العواقب تشمل: إلال الأهداف، وهو ما يظهر في عدة أشكال متنوعة: عندما يتم تقييم الأداء بواسطة مقاييس محدودة وتكون المكافآت مجزية (احتفاظ الفرد بوظيفته أو زيادة في الأجور أو ارتفاع سعر الأسهم ونقل ملكية الأسهم)
يركز الناس على تلبية متطلبات تلك المقاييس – غالبا على حساب أهداف المؤسسة الأخرى أكثر أهمية ولكنها غير مُقاسه، وأشهر مثال على ذلك هو “الدراسة للإمتحان” وهي ظاهرة واسعة الانتشار شوهدت في التعليم الابتدائي والثانوي في الولايات المتحدة منذ اعتماد قانون “لا طفل يرسب” في عام 2001.
أما التفكير قصير المدى فهو نتيجةٌ سلبية أخرى، قياس الأداء العام يشجع ما أطلق عليه عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ك. ميرتون في عام 1936 “الضرورة المُلحة للمصالح… وفيها يكون الشغل الشاغل للطرف المعني هو النتائج المباشرة والمتوقعة بغض النظر عن أي عواقب أخرى”، باختصار تحقيق الأهداف قصيرة المدى على حساب العواقب بعيدة المدى، وتعاني الشركات التي تعمل في التجارة بشكل عام من هذه المشكلة، حيث تقوم بالتضحية بالبحث والتطوير على المدى الطويل وتنمية موظفيها في سبيل متطلبات التقرير رُبع السنوي والمقاييس المُتوقع تحقيقها.
ويتعين علينا أيضًا أن نضيف إلى الجانب السلبي تكاليف القياس: إهدار وقت الموظفين من قِبَل أولئك المكلفين بتصنيف وتحضير المقاييس في المقام الأول ــ ناهيك عن الوقت اللازم لقراءتها بالفعل. أشار مستشاري الإدارة غير التقليديين (إيف موريوكس وبيتر تولمان) في ستة قواعد بسيطة (2014): أن الموظفين ينتهي بهم المطاف إلى العمل لفترات طويلة ومرهقة في أعمال لا تضيف إلا القليل من الإنتاج الحقيقي لمنظمتهم، إنهم في الحقيقة يستنزفون طاقتهم. كثيرًا ما تضع المنظمات مجموعات من القواعد لإيقاف تدفق المقاييس الخاطئة، التي تؤدي للمقامرة والغش وإحلال الأهداف، حتى وإن كان الامتثال لها يُبطء عمل المؤسسة ويقلل من كفاءتها.
وخلافاً للاعتقاد السائد: المحاولات التي تهدف لقياس الإنتاجية من خلال مقاييس الأداء، تُثبّط المبادرة والابتكار والمجازفة. فقد يعمل محللو الشرطة على قضية ما لسنوات لكنهم يقبضون على المتهم في نهاية المطاف، ولو قمنا بقياس إنتاجية هؤلاء المحللين في أي وقت من تلك السنوات لكانت صفرًا، ومعدّل فشلهم مئة بالمائة شهرًا بعد شهرٍ إلى أن حققوا النجاح.
إن السماح للمحللين بالعمل في المشروع لسنوات، من وجهة نظر الرؤساء ينطوي على درجة عالية من الخطورة فقد لا يتحقق الاستثمار في الوقت المناسب، ومع ذلك تعتمد الإنجازات المرموقة على هذه المخاطر في كثير من الأحيان.
إن جوهر المشكلة هو أنه عندما يتم الحكم على الناس بمقاييس الأداء العام، فإنهم يتحفزون للقيام بما تقوم بحسابه تلك المقاييس فقط، ويصبح هدفهم الوصول لأهداف المقاييس فقط، ولكن هذا يعيق الابتكار، لأن هذا يعني القيام بشيء لا يُقاس ولم يُجرب بعد، لأن الابتكار يعني التجربة، والتجربة قد تصيب وقد تخيب، كما أنّ مكافأة الأفراد على الأداء المُقاس تقلل الإحساس بالمنفعة المشتركة وكذلك وجود العلاقات الاجتماعية التي تحفز التعاون والتفاعل، حيث تشجع هذه المكافآت على التنافس بدلًا من ذلك.
إن إرغام الناس في منظمة ما على تركيز جهودهم على نطاق ضيق من السلوك القابل للقياس يحط من خبرة العمل، ومع الهوس بمقاييس الأداء يضطر الناس إلى التركيز على أهداف محدودة، يفرضها آخرون قد لا يفهمون العمل الذي يقومون به.
عندما لا يحدد الناس المشاكل التي يجب حلها أو كيفية حلها فإن التحفيز العقلي يفتر، وليس هناك أي دافع للمغامرة في المجهول لأن المجهول هو أبعد من أن يُقاس، بالتالي يُكبَت شعور المبادرة المتأصل في الفرد بسبب هوس المقاييس.
ينتهي المطاف بالمنظمات المهووسة بالمقاييس، إلى دفع الموظفين المبتكرين بالخروج من سوق العمل المهووس بالمقاييس بالتالي ينتقل المدرسون من المدارس العامة إلى المدارس الخاصة والمدارس الحكومية، والمهندسون ينتقلون من الشركات الكبيرة إلى المكاتب الخاصة والموظفون الحكوميون عاملين كاستشاريين للمشاريع.
هناك إيجابيات لانتقالهم بالطبع، ولكن من المؤكد أن المنظمات الكبرى في مجتمعنا هي الأسوأ في تحفيز الموظفين للابتكار والمبادرة، وكلما أصبح العمل مجرد تحقيق لأهداف مقياس الأداء وتحديد المكافآت على إثره، كلما كُبِتَ أولئك الذين يفكرون خارج الصندوق.
ويشير خبراء الاقتصاد مثل ديل جورجينسون من جامعة هارفارد، الذي تخصص في قياس الإنتاج الاقتصادي، إلى أن الزيادة الوحيدة في الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج في اقتصاد الولايات المتحدة، في السنوات الأخيرة كانت في مجال تكنولوجيا المعلومات. والسؤال الذي يتعين علينا طرحه هو إلى أي مدى أسهمت ثقافة المقاييس ــ مع استنزافها لوقت الموظفين وطاقاتهم وابتكاراتهم، وترويجها للنتائج قصير الأجل ــ في الركود الاقتصادي ؟
استبداد المقاييس (2018) من قبل جيري زي مولر نشر بواسطة مطبعة جامعة برنستون
أحدث التعليقات