كتابة: John P. Weiss

ترجمة: ريم ريحان @reemrayhan

تدقيق: سلمى عبدالله @salma1abdullah 

المراجعة النهائية: أسامة خان.

    أيقظني رنين هاتفي في صباح اليوم السادس من أيار، بحثتُ عن نظارتي لأرتديها وجلستُ ناظرًا إلى الشاشة المتوهجة، لقد كان تذكيرًا مع عبارة “عيد ميلاد أبي”، اتكأت على وسادتي وأزلت نظارتي وأغمضت عيني. توفي أبي عام 2004 عن عمر يناهز 83 عامًا، كنتُ معه يوم وفاته ممسكًا بيده، كان فاقدًا للوعي لكن الممرضة أكّدت لي أنّه يستطيع سماعي.

 تحدثتُ بصوتٍ خافتٍ في أذن أبي، مستذكرًا الماضي والإجازات العائلية وأيامنا السعيدة، ثم قلت: “أبي، إذا كنتَ متعبًا، استرح، نم، لقد أدّيت واجبك، وها نحن جميعًا بخير بفضلك، نحبك جميعًا”.

توفي والدي بعدها بساعتين. 

  “قبل عامين من وفاته قبّلت والدي وأنا أغادر مرة، فقال: يا بني، أنت لم تقبّلني منذ أن كنتَ طفلاً صغيراً، وأذاب ذلك قلبي وأصبحتُ أقبّله كلما رأيته بعد ذلك، حتى أنني أصبحتُ أقبّل أبنائي كلما التقينا”. -تيري ووجان

يُعرف الشجر بثمره

كان والدي قاضيًا في القانون الإداري وجنديًا في البحرية سابقًا ومحبًا للكتب ومثقفًا وشخصيةً مَهيبة، كان طوله 180 سم ووزنه أكثر من 90 كيلوجرامًا. كان حضوره وسلطته تطغى على أي مكان يدخله، كان حازمًا وهادفًا، ولكن أيضًا حليمًا ولطيفًا. كان يساعد الناس دائمًا وخاصةً المسنين، ذات مرة كان هناك رجلٌ بلا مأوى اسمه السيد سترولو صدمته سيارة، شهد والدي الحادث وأحضر السيد سترلو إلى المنزل ليتعافى وساعده في ربح قضيته.

تيد ستيرلو

    وفي إحدى المرات أنجد أبي عائلةً انقطعت بها السبل؛ لتعطل سيارتهم على الطريق، أحضرهم إلى المنزل ليتناولوا العشاء وجعلهم يبيتون الليلة ثم أخذهم لإصلاح سيارتهم في اليوم التالي.

“تُعرف الشجرة بثمارها والرجل بأفعاله، لا يضيع العمل الصالح أبدًا؛ من يزرع اللطف يحصد المودة، ومن يغرس اللطف يجمع الحب”. – القديس باسيليوس

     هذه هي هبة الآباء الصالحين، إذ يهتمّ أولادهم بالأفعال أكثر من الكلام، لدي أمثلة عديدة لمدى لطف والدي ومحبته مع غرباء لا يعرفهم، وهذا أحد أسباب عملي ضابطًا في الشرطة.

افعل خيرًا ولو قليلًا

بعد أن استيقظت وأنا أفكر بوالدي خطر ببالي أن السادس من أيار سيكون عيد ميلاده المئة، كم أتمنى لو كان لا يزال معنا!

    لاحقًا في ذلك الصباح وضعتُ صورةً لأبي على مكتبي، كان بإمكاني رؤية انعكاس ابتسامتي على زجاج الإطار كما لو كنتُ شبحًا أحييه بسعادة، التقطت صورةً للصورة وأرسلتها إلى أختي (الصورة أدناه).

والدي المرحوم جون ب. وايس 

كتبتُ: “عيد ميلاد أبي المئة اليوم! يُصعب تصديق ذلك، أتمنى لكِ يومًا رائعًا!”. نحبّ أنا وأختي أن نتبادل الرسائل المحفّزة، ربما نحاول الاقتداء بالقليل من الخير الذي علمنا إياه أبي.

“افعل قليلًا من الخير أينما كنت؛ إذ أنّ مجموع الأفعال الخيّرة الصغيرة هي ما يطغى على العالم “. – ديزموند توتو

     كانت أختي وقتها في عملها وحاولتْ لاحقًا الاتصال بي، لكنني كنت مع زوجتي في موعدها مع الطبيب ولم أتمكن من الرد على مكالمتها، تتعافى زوجتي من سرطان الثدي وأحضر معها جميع مواعيدها.

     ذهبت أنا وزوجتي بعد زيارة الطبيب إلى مطعم مكسيكي قريب لتناول الغداء، ولأن رحلة شفاء زوجتي تسير بشكل جيد احتفلت بذلك معي، جلستْ خلفنا امرأتان مرحتان في منتصف العمر، كانت إحداهما تحمل كيس هدايا مزين بألوان زاهية كُتب عليه “عيد ميلاد سعيد!”، ذكّرني الكيس بفتاةٍ صغيرة مميزة رأيتها منذ سنوات طويلة في مطعم آخر أثناء قضائي إجازةً مع أصدقائي.

يستمر صداه إلى الأبد

     كان المطعم في مكان جميل على شاطئ كاليفورنيا، كنتُ أنا وأصدقائي نقيم هناك وقررنا الاستمتاع بوجبة فاخرة، كان مطعمًا راقياً، لا يشوب الطعام والخدمة شائبة، والجميع على طاولتنا يضحكون ويستمتعون بالمقبلات والكوكتيلات والأحاديث. لاحظتُ عائلة شابة تدخل، أب وأم وفتاة تبلغ من العمر عشر سنوات تقريبًا على كرسي متحرك للأطفال ترتدي فستانًا جميلًا بياقة مكشكشة وربطات ملونة بألوان زاهية في شعرها وذات عينين واسعتين ومُعبّرتين. 

    كانت الفتاة الصغيرة تحرك ذراعيها ورأسها لا إراديًا، فتوقعت أنّها مصابة بالشلل الدماغي، حاولت ألا أحدق بها، لكن ما جذب انتباهي لم تكن حركات الفتاة، بل اهتمام الأم الصادق.

     واصلت استمتاعي بالعشاء مع أصدقائي لكني لم أستطع تجاهل إعجابي بكيف تساعد الأم الشابة ابنتها في تناول وجبتها والشرب من كوبها ومسح فمها بلطف، وبين الحين والآخر كانت الأم تهمس بشيءٍ في أذن ابنتها وتقهقه الابنة لدرجة أن الزبائن الآخرين في المطعم كانوا يرفعون أعناقهم ليروا ما كان يحدث.

     أثّر بي المشهد، من الصعب اصطحاب طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة إلى مطعم فاخر والعناية به أثناء محاولتك الاستمتاع بالعشاء، خاصة والناس يحدقون بكم. تمنّيت أن يقف الناس ونعبّر عن مدى إعجابنا بالأم وابنتها، ثم نصفق جميعنا بحرارة، ولكن خطرت لي فكرة أخرى، أمسكت بورقة ملاحظات وكتبت:

     “أرجو أن تغفري لي تطفلي عليكم، لديك ابنة جميلة وطريقة تعاملكم تعكس نوع الحب الذي يجب أن تحظى به جميع العائلات، أشكرك لإظهارك كيف تكون الأم الرائعة وعلى إلهامك لي لأكون أفضل أب يمكن أن أكونه”.

     أثناء مغادرتي مع أصدقائي طلبتُ آيس كريم وطلبت من النادل توصيلها مع ملاحظتي إلى العائلة الجميلة مع الفتاة الصغيرة.

“قد تبدو الكلمات اللطيفة صغيرةً وبسيطة ولكن صداها يستمر إلى الأبد” – الأم تيريزا

     كنت بالخارج عندما وصل الآيس كريم والملاحظة للعائلة، لكنني رأيت ردة فعل الأم، فتحت الورقة ثم وضعت يدها على فمها، نظرتْ حول المطعم ثم سلمت الورقة إلى زوجها، أتوقع أنّها كانت تبكي بينما كان زوجها يبتسم، انحنت الأم وقبّلت ابنتها الصغيرة وعانقتها.

     لطالما أخبرني أبي أن الأفعال اللطيفة لا ينبغي أن تتوقع منها أي مكافأة، لكنني بصراحة شعرت بشعور جميل، وكأنني أهديتُ هديةً للعائلة.

أنت تصنع الفرق

     نعود إلى المطعم المكسيكي والمرأة التي تحمل كيس عيد الميلاد، عندما انتهينا من وجبتنا سألتُ نادلنا بهدوء عما إذا كان بإمكاني دفع فاتورة المرأتين اللتين تتناولان الطعام بجوارنا، قلت له: “لا تخبرهم إلا بعد رحيلنا”. ابتسم نادلنا والتزم بكلامي.

     عند مغادرتنا سألتُ المرأتين: “إذن عيد ميلاد من؟” وقالت إحداهما “أنا”

     قلت لها: “حسنًا، عيد ميلاد سعيد! اليوم ذكرى عيد ميلاد والدي المئة، كان رجلًا طيبًا، وإذا كان معنا غالبًا سيشتري لك الغداء”.

     ضحكتا ثم قالتا: “حسنًا، شكرًا لك”.

     هذه المرة لم تكن هناك نافذة خارجية لأرى ردة فعلهما عندما أخبرهما النادل أن وجبتهما مدفوعة، لكن هذا أفضل.

     لقد كانت هدية عيد ميلاد أبي حقًّا تكريمًا لإرثه من اللطف ليعرف أنّ ابنه تعلم منه، ولأكون صادقًا فربما كانت تلك هديةً صغيرةً لنفسي أيضًا؛ لأن هذا العمل اللطيف وفي عيد ميلاد والدي المئة أعاد إحياء ذكراه، كما  لو أنني شعرتُ بقليل من روحه.

“كل دقيقة من كل ساعة من كل يوم أنت تحدث تغييرًا في العالم، تمامًا كما تحدث تغييرًا في نفسك، ويمكنك أن تفعل ذلك بكرم ولطف ولباقة”. – ريبيكا سولنيت

     إن مشاركة الغرباء في أعمال الحب واللطف العشوائية يملأ روحك بالسلام، ينير حياة الناس، يمنحهم الأمل، إنها طريقة رائعة لتكريم أحبائك الذين أثّروا فيك وطريقة لإحياء ذكراهم في قلبك.

المصدر 

تمت الترجمة بموافقة الكاتب