السُعار الاستهلاكي ومعاناة الأرض

تماما بعد أحد العُطل الصاخبة بالكماليات والسفر المترف والتسوق اللامسؤول، أُصدر هذا التقرير -الذي يُركّز على السُعار الاستهلاكي-بواسطة مؤسسة بحثية مقرها في واشنطن العاصمة.
قُرابة1.7 مليار على مستوى العالم ينتمون إلى“الطبقة المستهلكة”- والتي تُعرف على أنها مجموعة من الناس تَتْسم وجباتهم الغذائية بتألُفها من أطعمة معالجة كيميائياً،ويتوقون لمنازل كبيرة وفاخرة، بالإضافة إلى أنهم غرقى في وحل الديون، ونظام حياتهم قائم على النهم الاستهلاكي وتراكم السلع الكمالية.
اليوم ما يقرب من نصف المستهلكين على مستوى العالم يقيمون في البلدان النامية، بما في ذلك 240 مليون في الصين و 120 مليون في الهند، وبالطبع فإن هذه البلدان تُعتبر أسواقا كبيرة جداً خصوصاً أن لها إمكانية هائلة للتوسع في المستقبل.
يقول كريستوفر فلافين-رئيس معهد وورلد واتش- في تصريح للصحافة: “صحيح أن زيادة الاستهلاك ساعدت على تلبية الاحتياجات الأساسية وخلق المزيد من فرص العمل… لكن ومع دخولنا للقرن الحالي ومع شهية المستهلك غير المسبوقة التي تؤدي إلى تقويض وضعضعة نظامنا الطبيعي الذي نعتمد عليه، وتزيد من بؤس الفقراء، وتُصعب من تلبيتهم للاحتياجات الأساسية”
ويتناول التقرير الخسائر الفادحة لمصادر المياه، والموارد الطبيعية، والأنظمة البيئية. هذه الخسائر هي نتاج الكميات الهائلة من الكاميرات والأجهزة المَرْمِيّة، بالإضافة إلى أكياس القمامة البلاستيكية، وغيرها من السلع الرخيصة ذات العمر المحدود، والسلع الزهيدة التي تقود لعقلية” الاستعمال الواحد المتبوع برميها”.
“معظم القضايا البيئية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنهم الاستهلاكي”هذا ما قاله غاري غاردنر، مدير البحوث وورلد واتش. وأضاف: “وكمثال صغير لذلك، تُشير إحدى الدراسات العلمية المنشورة* إلى أن 37% من الأنواع قد تنقرض نتيجة للتغير المناخي، والذي يرتبط بشكل قوي بالسُعار الاستهلاكي ومخلفاته “.
“معظم القضايا البيئية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنهم الاستهلاكي”
من الكماليات إلى الضروريات
العولمة تُعد دافعًا أساسيًا مهمًا في تصنيع السلع وتوفير الخدمات بشكل غير مسبوق، وخصوصاً في الدول النامية. كثيرة هي الأشياء والسلع التي كانت تعد وتُعتبر من الكماليات في وقت مضى، مثل التلفاز، والهاتف المحمول، والحاسوب، وأجهزة التبريد. بيد أنها لم تعُد كذلك الآن؛ وأصبح يُنظر لها كأشياء ضرورية لا مناص من امتلاكها.
الصين تعتبر أنموذج جيدا لتقديم لمحة عن الواقع المتغير. فعلى مدار السنين، تميّزت شوارع المدن الصينية الكبرى بطوفان هائل من الناس الذين يمتطون دراجاتهم الهوائية ويستخدمونها للتنقل، وحتى عام 1980 كان من النادر أن تجد سيارات خاصة في الصين. لكن الحال تبدل كثيراً؛ فمع بداية القرن الحادي والعشرين وفي عام 2005 بالتحديد أصبح عدد السيارات قرابة 24 مليون سيارة.
ومن المفارقات العجيبة والتي تفيد في تقديم صورة عن الواقع أن عدد السيارات الخاصة في الولايات المتحدة، يفوق عدد من يملكون رخصة قيادة.
زيادة الاعتماد على السيارات تعني المزيد من التلوث، والمزيد من الازدحام المروري، وبالطبع المزيد من استهلاك الوقود النفطي. فالسيارات ووسائل النقل الأخرى تستهلك ما يقارب من 30% من الطاقة المستخدمة –جميع أنواع الطاقة-على مستوى العالم، وهذا يعادل 95%من الاستهلاك النفطي العالمي.
وحتى عادات الأكل والغذاء لدى الناس حصل لها الكثير من التغير، فازداد نهم وشره الناس باللحوم بأنواعها؛ وهذا بدوره قد ساهم في تفاقم المشاكل البيئية والاجتماعية.
فلكي يتم توفير وتلبية الحاجة والطلب المتزايد للحوم الحيوانية، انتقلت وتبدلت رعاية المواشي من المراعي والبوادي إلى تربيتها في المزارع الصناعية. وهذه المزارع الصناعية تستهلك كمية هائلة من المياه، فمثلًا يتطلب إنتاج ثمانية أوقيات من لحم البقر 25000 لتراً من الماء. بالإضافة إلى ذلك فإن 95% من محاصيل فول الصويا في العالم يتم استهلاكها من قِبل مزارع الإنتاج الحيواني. زيادة على ذلك، فإن الكميات الهائلة من الروث والتي تصدر من مزارع الإنتاج الحيواني تتحول إلى فضلات سامة بدلاً من أن تُستغل لكي تكون أسمدة؛ مما يؤدي إلى تلويث القنوات المائية القريبة والأنهار.
إنتاج البيض هو مثال صارخ لكارثة المزارع الصناعية. فلكي تنتج الدجاجة المزيد من البيض يتم وضعها في قفص صغير جداً (قرابة 60 سم مربع)، وغالباً ما تموت من الجوع والإهمال.
أما عندما يُراد إنتاج الدجاج كلحوم فتعمل هذه المزارع الصناعية على ضخ الكثير من الهرمونات في داخل أجسام الدجاج؛ بهدف تسمينها وإنتاج أكبر قدر من اللحم منها؛ مما ينعكس سلباً على جودة اللحم وقيمته الغذائية.
وهذه البيئة المكتظة والمزدحمة في المزارع الصناعية يمكن أن تؤدي إلى سرعة انتشار الأمراض بين الحيوانات، وزيادة احتمالية حدوثها. ولمنع هذا تلجأ هذه المزارع إلى بث المضادات الحيوية في غذاء الحيوانات. وهذا الاستعمال الواسع والمبالغ فيه لهذه الأدوية ينعكس سلبياً على صحة الحيوانات والناس الذين يتناولونها؛ بسبب انتشار وتفشي الميكروبات المقاومة لهذه المضادات الحيوية.
وتجري حالياً بعض الجهود التي تهدف لتقليل المشاكل السابقة، ففي عام 2002، أعلنت ماكدونالدز أنها ستتوقف عن شراء البيض من الموردين الذين يحافظون على الدجاج محصورًا في أقفاص صغيرة جداً ويعملون على إجبار الدجاج على إنتاج المزيد من البيض من خلال التجويع. وفي عام 2004، بدأت بعض مطاعم الوجبات السريعة الشهيرة الطلب من موردي الدجاج بأن يتوقفوا عن إعطاء المضادات الحيوية التي تهدف إلى تسمين الدجاج. أيضاً هناك بعض الشركات مثل كنتاكي، برجر كينج، ووينديز قد استعانت بخُبراء الرفق بالحيوان بهدف وضع معايير للرعاية الحيوانية الجديدة. ومُؤخراً قام البنك الدولي بإعادة النظر في سياسته التمويلية لمصانع الإنتاج الحيواني، وخلُص تقرير البنك في عام 2001 إلى أن هذه المصانع: (خطر كبير على الفقراء الذين تجري مزاحمتهم في أرزاقهم، ودمار للبيئة، وتهديد للأمن الغذئي العالمي).
“مصانع الإنتاج الحيواني خطر كبير على الفقراء الذين تجري مزاحمتهم في أرزاقهم، ودمار للبيئة، وتهديد للأمن الغذئي العالمي”
سراب السعادة
ازدياد الرخاء والترف لا يجعل البشر بالضرورة أكثر سعادة أو صحة كما تُشير إلى ذلك دراسات عديدة، فقد تم إجراء دراسة استقصائية في أكثر من 65 دولة عن مدى الرضى عن الحياة، وقد خَلُصت إلى أن الدخل والسعادة يتناسبان طردياً حتى يبلغا 21,000$ كدخل سنوي، وبعد ذلك يظهر أن الدخل الإضافي لا يُحقق إلا زيادة ضئيلة ومحدودة على مستوى السعادة الذاتية.
وقد بات جلياً أن النهم الاستهلاكي كان باهظ الثمن من جميع النواحي. فالناس يتكبَّدون الديون، ويعملون لساعات أطول من أجل دفع ثمن حياةٍ متخمة بالاستهلاك، وبالتالي يضطرون إلى قضاء وقت أقل مع أسرهم وأصدقائهم ومجتمعاتهم.
“ازدياد الرخاء والترف لا يجعل البشر بالضرورة أكثر سعادة أو صحة”
“النهم الاستهلاكي يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية” ذكر ذلك غاردنر، مدير البحوث في وورلد واتش. وأضاف:” المفارقة هي أن خفض مستويات الاستهلاك يمكن أن يُعالج -وبفعالية- الكثير من هذه المشاكل”.
وقد أدت وجبات الطعام المُعالجة صناعياً بالإضافة إلى نمط الحياة الحديث -والذي يتسم بقلة الحركة والاعتماد الشديد على السيارات- إلى وباء عالمي من السُمنة. ففي الولايات المتحدة، يُقدر أن 65% من البالغين يُعانون من زيادة الوزن أو السمنة. وبالطبع فهي الدولة التي تحتل المرتبة الأولى في أعلى معدل للبدانة بين المراهقين في العالم، مما أدى إلى ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض القلب والسكري وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية.
وقد أدت بعض الجوانب الاستهلاكية المتفشية إلى تشوهات مُروعة، فحسب تقارير وورلد واتش أن النفقات السنوية العالمية لمستحضرات التجميل تبلغ 18 مليار دولار، وعلى الجهة الأخرى فإن تقديرات النفقات السنوية المطلوبة للقضاء على الجوع وسوء التغذية هي 19 مليار دولار. وقريباً من ذلك، فالإنفاق على المواد الغذائية للحيوانات الأليفة في الولايات المتحدة وأوروبا يبلغ 17 مليار دولار سنوياً، بينما تبلغ التكلفة التقديرية لتطعيم كل طفل، وتوفير مياه شرب نظيفة، وتحقيق محو الأمية 16.3 مليار دولار.
لا يوجد بطبيعة الحال حل سهل وبسيط لهذه المعضلة، بعض المهتمين يدعو إلى فرض ضرائب بيئية (لتعكس التكاليف البيئية الحقيقية للمنتج وأثرها على البيئة)، وتفعيل استرجاع المنتجات بغرض تدويرها، وتثقيف وتوعية المستهلك. ولكن أولاً وقبل كل شيء نحن بحاجة إلى تغيير طريقة تفكيرنا كما يقول غاردنر. وأضاف: “الهدف ليس هو التركيز على التضحية والخسارة، ولكن في كيفية رفع مستوى المعيشة باستخدام الحد الأدنى من المواد الخام”. أيضاً ” نحن بحاجة إلى تغيير الطريقة التي ننتج بها السلع، وطريقة استهلاكنا لها”.
.
المصدر
أحدث التعليقات