جوجل وصناعة الغباء البشري

في عام 1964، سُئل بيكاسو في إحدى مقابلاته حول الآلات الإلكترونية المحوسبة الجديدة، والتي سرعان ما أصبحت تعرف فيما بعد، باسم أجهزة الكمبيوتر فأجاب: “إنها عديمة الجدوى، ولايمكن أن تعطيك إلا أجوبة“.
نحن نعيش الآن في عصر الأجوبة والتراكم المعلوماتي. فقديماً كان يُعتقد أن مكتبة الإسكندرية العريقة تحوي المعرفة العالمية بأسرها. أما اليوم، فهناك ما يكفي من المعلومات لأجل إعطاء كل شخص -على قيد الحياة- مقدار ما جُمع في الإسكندرية مضاعفاً ثلاث مرات؛ وكل هذا تقريباً في متناول أي شخص لديه اتصال بالإنترنت.
وهذه المكتبة الضخمة ترافقنا في كل مكان، وجوجل -رئيس هذه المكتبة- يتعامل مع استفساراتنا بكفاءة مُذهلة. فنزاعاتنا الدائرة حول مائدة الطعام أصبحت تُحل باستخدام هواتفنا الذكية، والكثير من طلبة الجامعة أصبحوا يستعينيون بخليط من مقالات ويكبيديا لتلفيق وإنجاز مقالاتهم الأكاديمية. ففي فترة وجيزة من الزمن، أصبحنا معتادين على مورد لا ينضب من الإجابات السهلة السطحية. ويُمكن القول أننا بتنا نعتمد عليها اعتماداً تاماً.
ومن المعروف أن جوجل هو مُحرك البحث المهيمِن، وحتى الآن بالكاد تجد مُحرك بحث آخر منافس له. إن الفجوة الزمنية القائمة بين بلورة السؤال في عقلك والعثور على إجابته تتقلص مع مرور الزمن بفضل استخدام جوجل والشبكة العنكبوتية. ونتيجة لذلك فقد أصبحت قدرتنا على طرح الأسئلة في ضمور وتردي. وقد سُأل رئيس قسم البحث في جوجل -أميت سينجال- عما إذا كان تعبير الناس في استعلاماتهم البحثية آخذًا في التحسن أم لا، تنهد وقال:” كُلما كان المُحرك البحثي أكثر دقة، كُلما أصبح الناس أكثر خمولاً وكسلاً”.
استراتيجية جوجل في التعامل مع تساؤلاتنا المتسرعة تُساهم في خلق الكثير من الأسئلة غير الضرورية وغير المُجدية. وكان تركيز سينجال -رئيس البحث في جوجل- مُنْصَبّاً على “القضاء على كل نقطة اختلاف محتملة بين أفكار المستخدمين، وبين المعلومات التي يريدون البحث عنها”. وقد تَحدّث لاري بايج -الرئيس التنفيذي لجوجل- عن اليوم الذي يتم فيه زراعة شريحة جوجل البحثية في أدمغة الناس: “عندما تفكر في شيء لا تعرف الكثير عنه، سوف تحصل على المعلومات -عن هذا الشيء- بشكل تلقائي بفضل هذه الشريحة”. وفي يوم من الأيام ستختفي الفجوة بين السؤال والجواب إلى الأبد.
أنا أعتقد أنه يجب علينا أن نسعى جاهدين للإبقاء على هذه الفجوة الزمنية الفاصلة بين التساؤل والعثور على الإجابة على هذا التساؤل. ففي هذه الفجوة يكُمن حب الاستطلاع المعرفي، و الاستخفاف بهذا الشغف المعرفي يجعلنا في دائرة الخطر.
الإنترنت غالباً ما يُنمّي فينا الشعور بالوهم المعرفي ويُوهمنا بقدرتنا المعرفية الكُلية، وأُسّ البلاء في هذا الشعور أنه يحجب عنا ويحول بيننا وبين الشغف والرغبة الحقيقية في التعلم وحُب المعرفة. فقد عرّف عالم النفس جورج لوينشتاين (الشغف المعرفي) بتعريف سهل وقوي حيث اعتبر الشغف المعرفي أنه “محاولة لسد الفجوات والثغرات المعرفية”. فإدراك مدى جهلك في كثير من الأمور، يُولّد لديك الرغبة في تعلم المزيد والمزيد. وأشار لوينشتاين إلى أن الشخص الذي يعرف عواصم ثلاثة ولايات من أصل 50 ولاية أمريكية،فمن المرجح أن يفكر في نفسه أنه يعرف بشكل جيد (“أنا أعرف عواصم ثلاثة ولايات”). وعلى الجهة الأخرى فالشخص الذي تعلم أسماء عواصم 47 ولاية سيكون من المرجح أن يفكر في نفسه بأنه لايعرف عواصم الولايات الثلاث الباقية، وبالتالي سيبذل جهداً أكبر لمعرفتها.
فكلمة (الجُهد) هي اللُب في هذا الموضوع، فليس من المُستغرب أننا نميل إلى البحث الإنترنتي لسلاسته وسهولة العُثور على المُراد فيه؛ فعقولنا مُصممة لتجنب أي عمل يبدو شاقاً. وبهذا السياق صاغ العالمان النفسيان سوزان فيسك وشيلي تايلور مصطلح “البُخل المعرفي” لوصف الشح الذي يستولي على الدماغ ويحثه على تخصيص الحد الأدنى من التركيز والجُهد لفهم قضية ما. كُلما حصلنا على المعلومة بسهولة، كُلما كان فقدانها سريعاً. الصعوبة والفشل-التي تهدف جوجل إلى الحد منها- هي إحدى الطرق المهمة لتنمية التفكير وتطوير العقل والفهم بشكل فعال. فإذا أتتنا المعلومة على طبق من ذهب، فسوف يزهد فيها الدماغ ولن تظل فيه طويلاً، وما تلبث أن ترحل عن أذهاننا.
فسؤال كبير -مُفحم- غالباً ما يجعلنا ننطلق في رحلة البحث والاستكشاف والتحدي، لكن الإجابات الفورية تُبقينا على حالتنا التي كُنا عليها. فمُجرد وجود الوقت الكافي لتخمر الأسئلة في عقولنا، يُنمي ملكة التفكير لدينا ويُبصّرنا على أمور لم تكن في طي الحُسبان. صحيح أن البحث في الكتب الورقية يُعتبر غير فعال ويستغرق الكثير من الوقت مقارنة بنظيره الإلكتروني؛ ولكن خلال تقليب الصفحات في تلك الكتب قد تطفو على السطح معلومات نُريدها ولم نكن نعرف في ذلك الحين أننا نرغب فيها.
كثيراً ما يتحقق التقدم العلمي ويزدهر الإبداع في الفجوة الزمنية الفاصلة بين التساؤل -حول قضية ما- وبين العثور على الإجابة لتلك المسألة. فنحن عندما نحتفي بالمفكرين العظماء، ينصب جُل تُركيزنا على إجاباتهم الذكية والمُبتكرة، بينما هؤلاء المُفكرون أنفسهم يميلون إلى رؤيتها بالعكس. فهذا تشارلز داروين يقول:” في اعتقادي أن الصعوبة تكمُن في رؤية المشاكل بشكل صحيح أكثر بكثير من مُجرد المقدرة على حلها”. ويذكر الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف بأن:”دور الفنان هو توجيه الأسئلة، وليس الإجابة عليها”. والتعريف الدقيق للعمل السيء للفنان هو الإصرار على قول الإجابات المُعلبة للجمهور، والعالِم الذي يعتقد أنه يملك جميع الأجوبة هو ليس عالماً على الإطلاق.
وقد ألمح عالم الفيزياء الكبير- جيمس ماكسويل- إلى إلماحة ذكية بقوله:”الوعي التام بالجهل هو المقدمة لكل تطور حقيقي في العلم“، و الأسئلة الجيدة -في حالة الجهل الواعي – تُحفزنا على تركيز اهتمامنا وانصباب جُهدنا على ما لانعرف. وكما يقول عالم الأعصاب ستيوارت فايرستاين:”العلم يُنتج الجهل بمعدل أسرع من إنتاجه للمعرفة”.
“الوعي التام بالجهل هو المقدمة لكل تطور حقيقي في العلم”
يُولد البشر واعين بجهلهم -بالمقارنة مع الكائنات الأخرى-، وهذا الوعي بالجهل هو الذي يحث الأطفال على الإكثار من الأسئلة عن كل شيء، ويجعلهم يبذلون جهدهم لمعرفة الأمور والسعي لرفع الجهل عن أنفسهم عن طريق سؤال من يكبرهم سناً. في عام 2007، قامت ميشيل شوينارد -أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا- بتحليل تسجيلات لأربعة أطفال يتفاعلون مع مقدمي الرعاية لهم ،كل تسجيل كان لمدة ساعتين في المرة الواحدة، بمجموع كُلي يزيد على مائتي ساعة. وخلُصت إلى أن الطفل يطرح أكثر من مئة سؤال في الساعة. فالأطفال يُدركون بشكل غريزي أن هناك كمية هائلة من المعلومات لايعرفونها، وأنهم بحاجة إلى الحفر تحت العالم الظاهري للوصول إليها.وفي هذا الحفر،يستخدم الأطفال الصغار الأسئلة للحصول على المعلومات البسيطة المُجردة- مثل:”ماذا يسمى هذا الشيء؟”، ولكن عندما يكبرون تبدأ أسئلتهم تنحو منحى آخر أكثر وعياً وهو منحى التفحص والتدقيق. فيكون دافع أسئلتهم هو التبصّر والبحث عن تفسيرات وتعليلات وليس معلومات مُجرّدة، فتزداد في أسئلتهم كلمتا “لماذا؟” و”كيف؟”.
لُبّ المشكلة لا يكمُن في التقنية والإنترنت بذاتها، ولكن المُشكلة تكمن في طريقة استخدامنا لها. فليس الإنترنت هو الذي يجعلنا أغبياء أو مُغفلين؛ ولكن طريقة تعاملنا الخاطئة معه هي التي تُوردنا هذه المهالك. فينبغي لنا أن نُسخّر التقنية والإنترنت لخدمة “شغفنا المعرفي” وتطوير طرق التفكير لدينا؛ وليس مُجرد أخذ المعلومات المجُردة من دون خيط معرفي ناظم. وقد حدد كيفن كيلي بإيجاز الطريقة التكاملية الفعالة للبشر في تعاملهم مع التقنية بقوله:”تُستخدم هذه الأجهزة التقنية للإجابات؛ وتكمن أهمية البشر في طرح وتوجيه الأسئلة المعرفية الواعية”، فالأسئلة الواعية هي المفتاح السري للرُقي المعرفي والتطور الحقيقي.
تكمن في الإنترنت إمكانية وقدرة هائلة لأن يكون أعظم أداة للاستكشافات الفكرية الابتكارية إذا تعاملنا معه كمُكمّل ومساعد لمواهبنا وجُهدنا؛ وليس باتخاذه بديلاً عنها. ففي عالم غارق في الأجوبة الجاهزة،تزداد أهمية طرح التساؤلات الصعبة والأسئلة المُفحمة والمُحفّزة أكثر من أي وقت مضى وذلك بهدف رفع المستوى العلمي وتحفيز الشغف المعرفي والحث على البحث الجاد لاكتساب المعرفة الحقيقية التي تضُم المعلومات في أمكنتها الصحيحة وتضعها في نظام معرفي واضح الرؤية مُتكامل الأجزاء بعيداً عن الأجوبة المعلوماتية السطحية السهلة، التي تحول بيننا وبين رؤية الأمور على حقيقتها.
كان بيكاسو مُحقاً في قوله، ولكنه قد قال نصف الحقيقة؛ فأجهزة الكمبيوتر تغدو عديمة الجدوى عندما يتم استخدامها من دون (شغف معرفي إنساني حقيقي).
أحدث التعليقات